• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأُمَّة.. شعب متكامل

الأُمَّة.. شعب متكامل

◄ما هي العناصر والسمات التي يمكن في ضوئها تقسيم المجتمع البشري إلى شرائح متميّزة انبثقت عنها شعوب متنوّعة؟ وما هو القصد من هذه الفوارق؟ وكيف يمكن أن تكون؟

مبدئيّاً، يمكن أن يتحقّق تكوين (الشعب) متّكئاً على أحد الأركان الآتية:

1- (الميزات الذاتيّة) وما يمثّل مقوّماً في تكوين شخصيّة الإنسان.

2- (العناصر والسمات الفكريّة والعقيديّة) التي تمثّل أهمّ ركيزة من ركائز الوفاق الحقيقي في الحياة الاجتماعيّة.

3- (الخصائص والميزات الماديّة) وهي أساس الاختلافات الاعتباريّة وغير الأصيلة.

وسندرس فيما يأتي تكوين (الشعب) في ضوء كلّ ركن من الأركان المشار إليها، ثمّ ندرس النظريّة الإسلاميّة وأُسسها الخاصّة بها.

إذا اقتصرنا في تشكيل الشعب على الميزات الذاتيّة دون غيرها، وانصبّ اهتمامنا على الأركان الأصليّة في شخصيّة الإنسان، وعلى العناصر التي قام على أساسها كيان الإنسان المعقّد، متغاضين عن الاختلافات الاعتباريّة التي تفضي إلى التفرقة بين الجمهور البشري الواحد، فلا يداخلنا الشكّ أنّنا ينبغي أن نذعن بأنَّ البشريّة ليست أكثر من شعب واحد، وأنَّ تشكيل شعبين على هذا الأساس متعذّر.

تتلخّص الميزات الذاتيّة للإنسان في موهبتين: (التعقّل) و(الفطرة). فالتعقّل هو العنصر الذي أضفى على الإنسان كرامة واحتراماً، وأعدّه لضروب السموّ والارتقاء وكسب أنواع الكمال والمثل. وأمَّا الفطرة فهي عبارة عن مجموعة الخصائص الخليقة بالمنزلة الإنسانيّة في الحياة، ولها دور مهمّ وأساس، وتوجّه الإنسان من حيث لا يشعر.

إنَّ استهداء الإنسان بموهبة (التعقّل) أمر اختياري، بينما نرى استهداءه بالفطرة خارجاً عن اختياره، ويجري بصورة تلقائيّة وطبيعيّة. وهذا من الرموز اللافتة للنظر في الخلق الحافل بالأسرار.

ومن المعلوم أنَّ كلّ إنسان يتمتّع بهذه المواهب الذاتيّة سواء كان أبيض، أم أصفر، أم أحمر، أم أسود. كما أنَّ هذا التمتّع واحد لا يختلف بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون في نقاط متنوّعة من الأرض أو الذين يتكلّمون بلغات مختلفة، أو الذين ينحدرون من أُصول متباينة آريّة، أو ساميّة، أو شرقيّة، أو غربيّة، أو غيرها من الأُصول.

من هذا المنطلق فإنَّ الإنسان يستطيع أن ينشئ مجتمعاً واحداً وشعباً واحداً من مجموعة الأشخاص فيرسي أوتاد حياته الاجتماعيّة في ضوء ذلك. وهذا أقصى وأعلى هدف يتحرّاه القانون الإسلامي في نظامه التربويّ الخاصّ، ويدعو الإنسان إلى تحقيقه، ونجد هذا الموضوع في التعاليم الإسلاميّة الوضّاءة بنحو ألطف وأروع.

يقدّم الإسلام الإنسان بوصفه كائناً مكرّماً ومحترماً، ويعتبره خليفة الله في الأرض، ويبشّره بأنَّ خالق العالم قد جعل الكون كلّه تحت تصرّفه، ومنّ عليه بمواهب وقوى واستعدادات كي يصيب حظّه من الاستمتاع بما في الوجود من مواهب ونِعَم وآلاء، ويكون بالمستوى المطلوب في التصرّف بها واستثمارها، ويكشف رموزها وأسرارها.

وجاءت هذه الحقيقة في القرآن الكريم مسجّلة في قوله تعالى: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون) (البقرة/30).

وجاء في مكان آخر من القرآن قوله جلّ من قائل: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً) (الاسراء/70).

ونلحظ ثناءه على الإنسان في قوله عزّ شأنه: (وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (13/ الجاثية).

ويرى الإسلام أنَّ جميع الناس متساوون في هذه الكرامة والشرف الذاتي، ويعتبر كلّ إنسان يجسّد معنى الإنسانيّة قيّماً بهذه الكرامة العظيمة، ويلغي الاختلافات الاعتباريّة والعنصريّة. وقد أعلن النبيّ الأكرم (ص) في إحدى خطاباته التاريخيّة بصراحة قائلاً: "كلّكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى".

وكان رسول الله ذات يوم جالساً مع جمع من أصحابه، فمرّت جنازة فقام لها احتراماً. فغمزه أحد أصحابه قائلاً: إنَّه يهوديّ. فقال : "أليست نفساً؟".

وفي ضوء هذا الاحترام والكرامة الذاتيّة، اعتبر الإسلام جميع الناس أُمَّة واحدة؛ وأُمَّة تستوعب المجموعات الإنسانيّة برمّتها. وأعلن القرآن هذه الوحدة الأصيلة بصراحة، واعتبر ألوان التفرقة والاختلاف عرضيّة ومنبعثة عن اتّباع الأهواء، وصرّح بأنَّ السرّ من بعثة الأنبياء يكمن في علاج هذه الخلافات وقيادة الركب البشري، قال تعالى: (وما كان الناس إلاّ أمَّة واحدة فاختلفوا)(يونس/19). وقال عزّ من قائل: (كان الناس أُمَّة واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلاّ الذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم) (البقرة/ 213).

إنَّ القرآن لا ينظر إلى اختلاف اللغات والألوان كعقبة في طريق الوحدة الإنسانيّة، بل يرى أنَّ هذا الاختلاف من السنن الكونيّة ومن مظاهر القدرة الإلهيّة. قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) (الروم/ 22).

ويتطرّق القرآن أيضاً إلى الاختلافات القبليّة والعنصريّة بوصفها باعثاً على ترسيخ الوحدة والعلاقات الاجتماعيّة، والتعاون بين أعضاء المجتمع البشري. قال جلّ شأنه: (يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)(الحجرات/13).

ويسوّغ القرآن حتّى فلسفة الاختلاف في المستوى المعيشي للشرائح الاجتماعيّة لئلاّ يساء استغلاله كباعث على التمييز والاستعلاء. قال تبارك اسمه: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخريّاً ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون) (الزخرف/ 32).

من جهة أُخرى، فإنَّ القرآن لا ينظر إلى الفارق الجنسي بوصفه باعثاً على الاختلاف في الأبعاد الإنسانيّة، وكان يوبّخ الذين يتبرّمون من ولادة الأُنثى. قال تقدّس ذكره: (وإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم) (النحل/ 58).

وفي مجال آخر، عندما يروم القرآن تقويم المثل الماديّة والظواهر الدنيويّة في مقابل الحياة الإنسانيّة الشريفة الخالدة، فإنَّه يعلن هذه الحقيقة مرّة أخرى، فيقول: (ولو لا أن يكون الناس أمَّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون) (الزخرف/ 33).

ولا يسمح القرآن أبداً أن يشكّل التفاوت في المواهب البشريّة أو المواقع الاجتماعيّة المتنوّعة، أو بقيّة الفوارق الطبيعيّة، حاجزاً ومانعاً في المجتمع الإنساني، فينقسم المجتمع إلى شرائح مختلفة في ضوء هذه الفوارق، وعند ذلك تتولّد التكتّلات والتجمّعات، فتصبح سبباً في التمايز، وقد تؤدّي إلى الظلم والإجحاف. قال تعالى: (إنَّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)(الانعام/159). وقال جلّ وعلا: (ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله) (الانعام/ 153).

تمثّل هذه التعاليم والنداءات في الحقيقة تنشيطاً معنويّاً في توطيد الوشائج والأواصر لمجتمع آمن بأصل هذه التعاليم والنداءات وانشدّ إليها من أعماقه، ويمكن أن تشكّل إنذاراً لتوعية الأُمَّة وإيقاظها أمام كلّ لون من ألوان الغزو والتفريق الذي تمارسه القوى الشيطانيّة المعادية للبشريّة ووحدتها، وفي الوقت نفسه فهي صمّام أمان في مواصلة الطريق ومقاومة ضرب من ضروب الانصهار والذوبان.►

 

  المصدر: القانون الدولي في الإسلام

ارسال التعليق

Top