• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كل إنسان مبدع

كل إنسان مبدع

◄الإبداع والأصالة والابتكار مترادفات لها في علم النفس دلالتها الجذّابة. فهي ألفاظ تبدو في ظاهرها متفردة ولكنها في واقعها التطبيعي متلازمة، ومصدرها واحد: هو فكر الإنسان.

كل إنسان مبدع في مجال ما، بيد أن ضروب الإبداع تتباين من فرد إلى آخر فيغدو الإبداع دالاً على ما هناك بين الأفراد من فروق فردية. فالإبداع إذاً، درجات تتفاوت بتفاوت الأشخاص من حيث قدراتهم العقلية. من شروط الإبداع هي الأصالة. ومن شروط الأصالة أن تكون نادرة ومتميزة. وأن تكون نافعة وذات علاقة بالموضوع المتوخّى حلّه. كل الخصائص المتعلقة بالأصالة هي خصائص ينظمها الإبداع. للأصالة قدرتها لدى الإنسان المبدع. كل من الأصالة والإبداع لابدّ لهما من الأسس التي ينهضان عليها. فلا مندوحة من الوسط المناسب الذي ينشأ فيه كل منهما. كشفت الدراسات العالمية التي أجراها جلفورد عن قدرات يتضمنها كل من الإبداع والأصالة وأبرزها: 1-    الطلاقة Fluency 2-    المرونة Flexibility هناك علاقة وطيدة بين القدرات الإبداعية والسمات الشخصية تتلخص فيما يلي: 1-    قدر من القلق والتوتر النفسي. فالتوتر، كما يبدو، ضرورة لازمة للإنتاج الإبداعي. 2-    إنّ التوتر النفسي يفضي إلى دفع الفرد بأن لا يتحمل الغموض الذي يكتنف الموقف الذي يتم فيه الإبداع. 3-    التوتر النفسي يرتبط ارتباطاً سالباً بالقدرات الإبداعية في مجالات السمات المزاجية المختلفة. 4-    ترتبط الصحة النفسية، ممثلة في قوة الأنا، والاكتفاء الذاتي، بالأداء على مقاييس القدرات الإبداعية. فالعلاقة بين القدرات الإبداعية والسمات الشخصية هي علاقة تفاعلية، دينامية، نفسية، ظرفية، ولابدّ لها من الخبرات الغاذية. فالشاعر مثلاً حين تجيش في نفسه عوامل التوتر والقلق وتحتبس في صدره بواعث التعبير عما يعتمل في بواطن ذاته، فإنّه يلجأ إلى ميدان اهتمامه ألا وهو الشعر. يبدو أن أكبر التجارب الناجحة التي أجريت على بواعث الإبداع والتذوق في الأدب والفن قد اتبعت في إجرائها طريقة تسمى في علم النفس بـ(طريقة الموازنة الثنائية). وأعم أنواعها النوع الربطي associative type، ذلك أنّ التفضيل فيه يُبنى على ما يثيره لدى المبدع وعلى المتذوق من ذكريات ومسرات وأحاسيس ووجدانات ومن تداعيات، (تخضخضه) على حدّ قول أبي القاسم الشابي. ولقد ذهب كثير من علماء النفس إلى أنّ حاسة الإحساس بالجمال وبالأثر الإبداعي فينا لا تنبعث إلّا من مثل هذه الروابط. ومن الإنصاف بمكان أن نقول هنا إن كثيراً من النجاح الذي يحققه المبدعون في الأدب يتوقف على مهارتهم في إثارة روابط التداعيات في أذهان الآخرين، وفي تبنيهم أصداءً وصوراً ومشاعر تنمّ بحق عن أعماق دواخلهم وعما تعمل به قرارة نفوسهم.   - فما هو الإبداع ومَن هو المبدع؟ المبدع، كما يذكر عنه بيكاسو: (وعاء مليء بالانفعالات التي تأتيه من كل المواقع، من السماء والأرض، من قصاصات الورق، ومن شكل عابر، أو من نسيج عنكبوت... والمبدع يودع ما يرى أو يسمع أو يقرأ ليخفف من وطأة الانفعالات وازدحام عقله بالرؤى). فالإبداع. بهذا المعنى، يعد مظهراً من مظاهر خصوبة التفكير، بل إنّه فكر خصب سيّال. فبيكاسو مثلاً لم تقم شهرته على لوحة واحدة، بل إن لوحاته التي تنيف على المئات، كانت كل واحدة منها تحفل بالعديد من المنبهات، وبشتى الألوان والصفات. فلم يُعرف شكسبير، مثلاً، بهاملت وحده، ولكنه كتب الملك هنري الرابع، والملك لير، وعطيل وماكبث، وكتب غير ذلك من القصائد والمسرحيات وكل منها يزخر بفيض من الصور النفسية والوجدانية. في الإبداع تتجلى القدرة على تخطي حدود الذات، إلى آفاق رحبة تتمثل فيها مرحلة استثنائية خارقة. العمل الإبداعي يتجسد في فكرة يلتقطها فكر مبدع فيجعل منها متعة للشخص العادي. فالشمس وقت الأصيل يثير منظرها في ذات المبدع من الصور والأحاسيس والمشاعر غير ما تثيره لدى الفرد الاعتيادي الذي لا يرى فيها أكثر من تحولها من مكان إلى آخر في كبد السماء. والمبدع، أديباً كان أم رساماً، تثير فيه حساسية مرهفة، فيعبر عنها بفائق قدرته على الإدراك الدقيق، تعبيراً يستأثر بلب الآخرين. ولهذا، فإنّ المبدع في الأدب والفن والعلم، هو الشخص القادر على الإحساس بشكل مفرط، المتمكن من إدراك الروابط الخفية بين عناصر الأشياء. إنّ ما يميِّز المبدع هو انشداده باتجاه إبداعي وبقدرته على تحرير نفسه وفكره من رتابة جامدة. ولا مناص للمبدع من القراءة والتتبع ليرفد عبقريته، وليشحذ موهبته، وليغني آفاق قدرته. فنحن نقرأ عن الشاعر الإنجليزي كولريدج أنّه كان قد قرأ كثيراً في أدب الرحلات قبل أن يبدع قصيدته المطولة (الملّاح القديم) وأن توماس ما كان قد درس الموسيقى درسة متعمقة قبل أن يضع أشهر رواياته. ويقارن توفيق الحكيم في إحدى قصصه بين الطريقة التي يقرأ بها الأدب، والطريقة التي كانت تقرأ بها بطلة إحدى قصصه نفس القراءات فيقول: (إنها تتم قراءة التمثيلية في ساعة واحدة. وأنا الذي أقرؤها في يومين أو ثلاثة. ولكن هناك فرقاً هائلاً بين قراءتي وقراءتها، إنها تقرأ للحكاية في ذاتها، أما أنا فلا تعنيني حكاية الكاتب بل يعنيني فنه، وسر صناعته، وطريقة أسلوبه في البناء وخلق الشخصيات ونسج الجو وإحداث التأثير. إني أحياناً أعيد قراءة الفصل الواحد بل الصفحة الواحدة مرات). فالشخص المبدع هو إنسان (يتآكل قلبه من فعل ظمئه الشديد للعمل الإبداعي)، كما يذكر فإن جوخ. الإبداع من الناحية السيكولوجية عواطف لدى المبدع تتأجج في داخله، تبلغ حدَّ الإلهام فتصل عنده إلى قمتها، فتشرق الفكرة فجأة على ذهن المبدع. ولابدّ للفكرة الإبداعية من معين تمتاح منه، ولكن الإبداع في صياغتها هو الأساس. قال هانز ساكس في معرض وصفه لما يقصده الشاعر في قصيدة، بأنّ القصيدة الشعرية (ليست سوى حلم يقظة اجتماعي). وعندي أنّ شعر الشارع المبدع الملهم إنما هو نبض وجدانه يتسامى فيجعل مبدأ الشعر عنده متعالياً متألقاً. ألا يرى القارئ ويحس أن في شعر الدكتور المقالح انسياب سيل من الأفكار والصور وتنضح بالانفعالات الجيّاشة هي من ولائد الواقع والخيال والأرواح والأطياف كلها تجمعت فتفاعلت فعبّرت أصدق تعبير حسي وجداني عن خوالج النفس التي أوحت بها فأكسبتها صادق معانيها؟ ونحن هنا لسنا بصدد ما يبحث عنه الناقد عادة من تصويب أو تجويد. فللناقد رأيه، وللناقد حكمه، وللناقد معاييره، إنما نحن هنا أمام معايير نفسية تنقب وتبحث عن ماهيات فكرية نتملى فيها معطيات عبقرية. وأنى سرّحنا الطرف، وأنّى أجلنا البصر، في أرباض الأدب ورياضه، العربي منه والعالمي نجد روائع. بيد أنّ هذه الروائع قد أنجبتها ما هي أروع منها: أنجبتها أذهان بارعة وعبقريات رائعة. مصدر الدهشة التي يحدثها العمل الإبداعي يكمن غالباً في مجالات شتّى من النفس الإنسانية، أبرزها ثلاثة: 1-    في الفعالية التنبؤية كما تقررها النفس الملهمة. 2-    في الفعالية الصورية التي تتبين فيها الذات العلاقات بين عناصر الموضوع. 3- في الفعالية المجازية، وترتبط بهذه الفعالية ما يطلق عليه تعبير (صدفة التعرّف). وكل هذا تقريب ما يستراد مما تطفح به النفس البشرية إبداعاً وإلهاماً. إنّ ما نجده في التأليف الأدبي من شعر ورواية وقصة، إنما يتناول مواد مستمدة من نطاق الشعور الإنساني – مآسي الحياة، الصدمات الانفعالية، الأهواء البشرية، أزمات المصير الإنساني عامة، من كل ما تتألف منه حياة الإنسان الشعورية، وحياته العاطفية خاصة.►   المصدر: كتاب إنتبه! أنت مبدع

ارسال التعليق

Top