يقبل علينا شهر رمضان محمّلاً بالبركة والمغفرة، فهو مخزن الرحمة التي يرحم الله فيها عباده بكلّ مواقعها وآثارها وبكلّ فيوضاتها. وإذا عرفنا أنّ وجودنا هو مظهر لرحمة الله، وأنّ النعم التي يغدقها الله علينا هي مظهر رحمة الله فينا، وأنّ طاقاتنا التي أودعها الله في كياننا هي مظهر رحمة الله، وأنّ كلّ ما يحيط بنا؛ وكلّ من يحيط بنا مما يتصل بحياتنا ويغنيها هو مظهر رحمة الله، فكم هي هذه الرحمة الرمضانية التي تختصر رحمة السنة كلّها بالبركة والرحمة والمغفرة. فماذا تنتظر ذنوبنا التي أثقلت ظهورنا، وإحساسنا ومشاعرنا، وجعلتنا نتحرك في أجواء الحياء من الله أننا عصيناه وهو يغدق علينا نعمه، كما عبّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعائه: «تتحبّب إلينا بالنِعَم ونعارضك بالذنوب خيرك إلينا نازل وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنّا في كلّ يوم بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمتك وتتفضّل علينا بآلائك فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيداً»، قد أقبل إلينا وهو يحمل لنا المغفرة لذنوبنا. ومع أنّ أبواب الرحمة الإلهية مفتوحة واسعاً أمام عباده دوماً إلّا أنّه هنالك على مرّ السنة محطات زمنية تكتسح فيها الرأفة السماوية عدداً لا حصر له من عباد الله بعد أن تنهمر عليهم بمنتهى السخاء. شهر رمضان، شهر نزول النعم الإلهية الفياضة، إنّها حقيقة أكّدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته المعروفة بالخطبة الشعبانية، التي ألقاها في استقبال شهر رمضان المبارك، جاء فيها: «أيّها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيّامه أفضل الأيّام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات. وهو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب فسلوا ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم...». شهر رمضان، شهر الصيام، شهر يختبر فيه ملايين من بني الإنسان المتحررين من عبودية النفس - بفعل التحكم فيها - خبرة «تعاظم المراقبة الذاتية على النفس» في ظل هذه الممارسة البناءة الهادفة لنيل مرتبة أسمى من مرتبات العبودية لله. يتمثل أدنى مظاهر هذه الممارسة المتميزة في الإمساك عن تناول الطعام والشراب منذ طلوع الفجر وحتى غروب الشمس وتجنب سائر المحرمات الأخرى. أمّا كنهها وحقيقتها فإنّها تعني وتتطلب تنقية الآذان والأعين وجميع أعضاء الجسم والمواهب والقابليات من المحرمات والقبائح. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام وجارحتك وجميع أعضائك من القبح». وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). وقد جعله الله سبحانه وتعالى شهر ضيافته لعباده المؤمنين ودعوته سبحانه لأوليائه الصالحين للتزود من موائد كرمه وروافد رحمته فيا ترى لماذا كانت دعوة الحقّ سبحانه في هذا الشهر؟ ومن الذي يفوز بهذه المنزلة العظيمة والضيافة الكريمة أو بعبارة أخرى من ذا الذي هو أهلاً لأن يكون ضيف الرحمن حقاً في هذا الشهر؟ أحاط الله هذا الشهر بهالة من التقديس، هو شهر الإنابة والتوبة وشهر المغفرة والرحمة، وشهر الطهور والتمحيص، به تسمو النفوس عن سفاسف الهوى وتنشط الروح من عقال المادة العمياء وترنو القلوب للتألق بنور العز الأقدس. وهنا نفهم سر الضيافة في هذا الشهر الكريم إذ انّ مقام القرب الإلهي لا يمكن الوصول إليه دون التنزه عن أوحال المادة والتطهر من أدرانها وعندها تخرق أرجاء القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير الأرواح معلقة بنور عزه الأقدس. والذي يفوز بفخر الضيافة هو ذلك الذي عرف حقاً قدر مضيفه والتزم بآداب ضيافته واستزاد من بره وإحسانه وحرص أشد حرصه ألا يخرج عن رضاه فإن استطاع أن يقوم بهذه الوظائف طيلة شهر الصيام حتى لا يشهد عليه نهاره بتضييع ولا ليله بتفريط واستنار بهدي القرآن وبنيانه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، ونفحات الدعاء وجوائزه، حتى يبلغ ليلة القدر فتشرق عليه أنوارها ويكون ممن تصافحه الملائكة بالسلام والعفو حتى مطلع الفجر ويخرج من ذنوبه وأغلال قيوده بخروج الشهر ويتهيأ لمسيرة سنة كاملة بشحنة روحية وعطاء ثابت. وممّا نفل الله به هذا الشهر هو أن هيأ فيه جميع الوسائل والطرق التي تدعو للقرب الإلهي فأبواب النيران مغلقة وأبواب الجنان مفتحة والشياطين مصفدة، والقلوب مزهرة بنور المعرفة وأعمدة العفو الإلهي منصوبة في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان وسبل الخير مشرعة، والصائم في عبادة الله حتى وإن كان نائماً - ما لم يغتب مسلماً - لأنّ نومه عبادة وأنفاسه تسبيح ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف، كما جاء في خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل شهر رمضان: «فالشقي مَن حرّم هذه العطايا والشقي مَن حرّم غفران الله في هذا الشهر العظيم». ليس جزاء الصائم هو جنات ونهر فحسب، بل انّ جزاءه فوق ذلك ولا يمكن أن يحيط به بشر جزاؤه هو الله نفسه، ونعم العمل الذي جزاؤه رب الأرباب وخالق الأكوان. ولا غرو في ذلك لأنّ الصوم محض الإخلاص ومنهل الصبر ووسيلة التقوى، رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: قال الله تبارك وتعالى: «كلّ عمل ابن آدم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به». وجزاء الله هو فوق ما نتصور من الأجر والثواب المادي، بل هو عطايا ممن يمن بها على من يشاء من خلقه، ومن هو أهلاً لها وأهلها. جاء في حديث المعراج عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يا رب وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة والمعرفة تورث اليقين». فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسر أم يسر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق