• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافتنا المعاصرة بين التعريب والتغريب

ثقافتنا المعاصرة بين التعريب والتغريب

◄لم يعد التعريب، في حياتنا المعاصرة، مجرد هدف ثقافي، وانما أصبح هدفاً حضارياً شاملاً، ينطوي على جوانب سياسية وقومية لا تقل أهمية عن جوانبه الثقافية في الأقطار العربية التي بدأت نهضتها منذ القرن التاسع عشر، والتي مرت بتجربة الاستقلال الوطني منذ وقت أطول نسبياً، يعد التعريب عنصراً لا غناء عنه من عناصر النهضة، ومظهراً من مظاهر النضج والقدرة على التحرر من المؤثرات الخارجية الوافدة. وفي الأقطار التي لم تتحرر من الاستعمار إلا حديثاً، أصبح التعريب أعلى مظاهر استرداد الهوية التي سعى الاستعمار طويلاً إلى طمس معالمها، واصطبغت معركة التعريب بطابع فريد تمتزج فيه العناصر السياسية والثقافية والتاريخية والتراثية والمستقبلية امتزاجاً لا نظير له، وتجتمع فيه متناقضات التراث والمعاصرة بلا أدنى تعارض.

لقد أصبح التعريب في بلادنا موقفاً كاملاً من تراثنا التاريخي، ومن العالم الخارجي، ومن محاولات الاستيعاب والسيطرة الفكرية التي تقوم بها قوى استغلالية عاتية. وفي كل مرحلة يبدو فيها مشروع النهضة في حياتنا أملاً عريضاً، يبرز التعريب بوصفه أول عناصر هذا المشروع وأكثر وسائله فعاليّةً. هكذا كان منذ القرن الثاني الهجري، حين اقترن الامتداد الهائل للحضارة العربية الوليدة بحركة تعريب فريدة تمكنت فيها لغة كانت حتى عهد قريب انعكاساً لحياة بدوية شديدة البساطة، من التعبير عن أرقى ما وصلت إليه ثقافة اليونان والفرس والهنود في ميادين العلم والفلسفة والآداب والعقائد. وهكذا أصبح منذ القرن التاسع عشرة، حين كانت أبرز معالم تلك المحاولة الدائبة التي بذلناها من أجل استرداد هويتنا واستعادة كياننا، حركة تعريب واسعة كان روادها هم أيضاً رواد الفكر السياسي والنهضة الثقافية، ولم يكن الذي جمعهم بين هذه الصفات كلها مصادفة على الاطلاق.   التعريب قديماً وحديثاً: هكذا يشعر المرء باغراء شديد يدفعه إلى تشبه حركة التعريب المعاصرة بنظيرتها التي بدأت في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، من القرن الثاني للهجرة. وبالفعل يتجه كثير من الباحثين، في العديد من الندوات والمؤتمرات التي تعالج موضوع التعريب، إلى الربط بين حركتي التعريب القديمة والحديثة، وتبرير الثانية على أساس النجاح الهائل الذي احرزته الأولى. ولكن حقيقة الأمر هي أن حركة التعريب المعاصرة لها سماتها الخاصة التي تميزها تمييزاً قاطعاً عن نظيرتها القديمة، بحيث يكون من المشكوك فيه إلى حد بعيد، في ضوء الظروف التي تسود حياتنا المعاصرة، ان تؤدي حركة التعريب في الوقت الراهن دوراً مماثلاً، أو حتى مشابهاً، لذلك الذي أدته في العصر الزاهي للحضارة العربية. وأوّل ما ينبغي ملاحظته، في صدد المقارنة بين الحركتين القديمة والحديثة، انّ الأولى كانت تعريباً لنتاج ثقافي ينتمي إلى حضارة كانت قد توقفت عن العطاء في الوقت الذي اهتدت فيه الثقافة العربية إليها. ويتمثل ذلك بوجه خاص في تلك المؤلفات اليونانية التي كانت تنتمي إلى الفترة الواقعة بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الأوّل أو الثاني بعده – اعني ان اقرب هذه المؤلفات عهداً كان قد مضى عليه حوالي خمسة قرون عندما بدأ العرب في نقله، على حين ان معظمها كان يفصله عن عصر الترجمة العربية حوالي ألف عام. هذه حقيقة على أعظم جانب من الأهمية: إذ انّ التراث اليوناني كان قد توقف عن العطاء قبل وقت طويل من اتصال العرب به، ومن ثمّ فقد كان تراثاً ساكناً محدد المعالم، غير قابل للتجدد، يواجه ثقافة فتية متوثبة توسعت، كماً وكيفاً، توسعاً خاطفاً بجميع المقاييس. ولا جدال في أنّ المشكلات التي ترتبت على هذه المواجهة كانت هائلة، ومع ذلك فإنّ التراث المنقول كان كمّاً محدّداً أوله معروف وآخره معروف، وكان تعبيراً عن أرقى ما وصل إليه الفكر البشري في مرحلة "ماضية" من تطوره.   حضارة دائمة التغير: أما اتصالنا المعاصر بالحضارة الغربية وسعينا إلى تعريب نواتجها، فهو اتصال بحضارة دائمة التغير، تتخذ في كل يوم موقعاً جديداً، وتفاجئنا دائماً بتحولات وثورات غير متوقعة في ميادين العلم والفكر والأدب. وهكذا انقلبت الأدوار اليوم، فأصبحنا نحن أصحاب التراث الثابت، المحدد، الذي توقف منذ وقت طويل عن التجدد والعطاء، وأصبحوا هم أصحاب الثقافة المتوثبة الطموح، التي لا تظل لحظة واحدة في موقع ثابت. ويترتب على هذا اختلاف آخر أساسي بين الحالتين: فقد حدثت حركة التعريب القديمة في إطار تفوق عربي شامل، كانت فيه الشعوب التي نقلنا ثقافتها قد تدهورت، ولم يكن واحد منها نداً للأُمّة العربية التي كانت صاحبة الكلمة العليا في تلك المرحلة من تاريخها. ولا جدال في أنّ حركة التعريب التي تتم في ظل السيادة والتفوق، تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تتم في ظروف التراجع والانهزام، وهي الظروف التي تميز موقفنا الراهن ازاء الحضارة الغربية. هذه الأوضاع تشكل فوارق هامة ينبغي أن نعمل حسابها قبل أن نتسرع بتشبيه حركة التعريب في أيامنا هذه بنظريتها في عهد الخليفة المأمون. ففي عصرنا الراهن يُصنع التقدم العلمي والفكري عندهم، لا عندنا، وتظهر الكتابات والأبحاث التي تقف في الصف الأوّل من إنتاج العقل البشري في بلادهم، لا في بلادنا، وتظهر بلغاتهم، لا بلغتنا. وهذه الحقيقة البسيطة، والأليمة في الوقت ذاته تضفي على حركة التعريب في عصرنا الراهن سمات ينبغي أن نواجهها بصراحة وشجاعة. ذلك لأنّها تفرض على التعريب حدوداً لا يستطيع أن يتعداها. فإذا كان التعريب على مستوى التعليم العام، وربما على مستوى التعليم الجامعي أيضاً، ضرورة قومية، فإنّه لا يستطيع أن يمتد إلى المستويات العليا من البحث العلمي المتخصص، وذلك لأن من المستحيل، عملياً، تعريب ذلك الفيض الهائل من الأبحاث التي تنتجها الدول المتقدمة علمياً بمعدل متزايد، ومن ثمّ يتعين على من يريد متابعة أعلى صور التقدم في ميدان تخصصه أن يقرأ ما يكتب بلغة أخرى غير العربية. وفضلاً عن ذلك فإنّ الفجوة بيننا وبينهم، في ظل أوضاعنا المتردية الراهنة، تزداد اتساعاً على الدوام. وفي كل عام يتدفق كم هائل من التعبيرات والمصطلحات الجديدة، وتطرق ميادين لم تكن معروفة من قبل، وتتراكم خبرات لم نكتسبها وتجارب لم نعشها. كل ذلك يضع أمام حركة التعريب صعوبات عملية نظرية يكاد يكون من المستحيل التغلب عليها.   إخفاق السياسة التعليمية: وإذا كان هذا هو الموقف على المستويات العليا للبحث العلمي، فإنّ الصورة تبدو مختلفة كل الاختلاف على مستوى الثقافة العامة التي لا تتسم بالتخصص الشديد. هنا يبدو التعريب ضرورة لا غناء عنها، وخاصة بعد أن أصبحت لدينا أجيال كاملة عاجزة عن فهم أيّة لغة أجنبية. ولنؤكد في هذا الصد أنّ العجز في هذه الحالة ليس ناتجاً عن الاعتزاز باللغة القومية، وانما هو نتيجة اخفاق طويل الأمد في السياسة التعليمية. هذه الأجيال لن تستطيع أن تكتسب من الثقافة العالمية ما ينقل إليها معرّباً، أي انّ التعريب هو نافذتها الوحيدة للاطلال على العالم. وفي ظل التدهور الحالي للغات الأجنبية في مختلف مراحل تعليمنا، وضمنها المرحلة الجامعية ذاتها، يبدو أننا قد عدنا مرة أخرى إلى العهد الذي أصبحت فيه الترجمة صنعة يتقنها القلائل، ولا تدري عنها الأغلبية المتعلمة شيئاً، بحيث لا تستطيع هذه الأغلبية أن تنفتح ثقافياً على العالم الخارجي إلا بتوسط عملية التعريب. والأهم من ذلك أنّ التعريب لا يصبح في هذه الحالة دليلاً على الاستقلال الثقافي، بل يغدو مظهراً من مظاهر التبعية والاعتماد على الغير. بل انّ هذه الأوضاع المتردية قد انعكست، في كثير من الأحيان، على عملية التأليف ذاتها. ففي ظل الجهل باللغات الأجنبية لدى الغالبية العظمى من أفراد الأجيال الحالية، أصبح قدر لا يستهان به من التأليف أقرب إلى النقل المباشر، أو التخليص، أو حتى انتقاء الأسهل من المصادر الأجنبية. لقد أصبحت القلة القادرة على فهم اللغة الأجنبية تستغل هذه القدرة من أجل اعفاء نفسها من عناء البحث والتفكير المستقل، وهي واثقة من أن أحداً لن يكتشف ما نقلته عن الغير، حتى أصبح أقصى ما نتوقعه من المؤلف هو أن يكون قد أجاد "هضم" الأصول التي نقل عنها وأحسن فهمها، وأشار إلى المصادر التي نقل عنها ضمن مراجعه.   هؤلاء "المؤلفون": وهنا نجد أنفسنا ازاء سؤال محير: هل أصبح التعريب بحق وسيلة لتحريرنا من سيطرة الثقافة الغربية، أم أنّه يزيدنا اعتماداً عليها؟ إنّ أعداداً متزايدة من كتابنا تستغل قدرتها على فهم اللغات الأجنبية لكي تلخص كتب الغربيين وتقدمها كما لو كانت نتاجها الخاص. ولو كان نظام التعليم قد نجح في تكوين قاعدة عريضة من قراء اللغات الأجنبية لما استطاع هؤلاء "المؤلفون" أن يواصلوا السير في طريق الاتكال على الغير، ولبذلوا الجهد اللازم للإسهام في خلق ثقافة قومية أصيلة. وهكذا أصبحنا الآن نعيش في ظل أوضاع ثقافية تحتم علينا أن ندقق ونعيد النظر في المفاهيم التي اعتدنا أن نتداولها على ألسنتنا، وأعني بها أنّ التعريب هو في كل الأحوال طريقنا إلى خلق ثقافة قومية متميزة. ذلك لأن أموراً كثيرة تتوقف على الجو العقلي والثقافي الذي يتم فيه التعريب. ففي كثير من الأحيان قد يؤدي التعريب، إذا ما حدث في إطار من التدهور الثقافي، إلى مزيد من الاعتماد على الثقافات الأجنبية. وأياً كان الأمر، فليس من الحكمة أن نسارع إلى تشبيه حركة التعريب في عصرنا الراهن بما حدث في فترة ازدهار الحضارة العربية، وانما ينبغي علينا أن نضع حركة التعريب المعاصرة في إطارها الخاص، ونتنبه إلى الظروف المميزة التي تتسم بها هذه الحركة، والتي تضع عقبات كأداء أمام تحقق الهدف المنشود للتعريف، وأعنى به خلق ثقافة قومية أصيلة.►   المصدر: مجلة العربي/العدد 302

ارسال التعليق

Top