• ٣٠ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٢٤ | ٢٦ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كوب حياة!

كوب حياة!

أفضلها باللبن، واعتدت أن أشربها في كوب صغير.

لم أسأل نفسي من قبل لماذا أشرب القهوة في كوب، بعكس الشاي الذي أفضله في فنجان، ولماذا أحبها أكثر باللبن؟ لا أحب أنا أسئلة التعليل في الحبّ والكره والتفضيل، فهي أشياء لا تعلل.

ذات صباح بعد إعدادها، جلست بالقرب من الكوب فجذبني ما رأيت. شفافية الكريستال سمحت لي برؤية ما يحتويه الكوب، ولون اللبن سـمح لي برؤية أوضح منها لو كانت القهوة بالماء.

كانت حبيبات البُن تتحرك في مشهد بديع. تأملت بشكل أعمق، فوجدت أنّها تتحرك في اتجاهات مختلفة.

فمنها ما تزاحم ليطفو على سطح الكوب في صراع حميم للوصول، كلّ حبة أبت إلّا أن يكون لها مكان على السطح، حيث «وش القهوة» الرشفة الأولى والمذاق الذي يصبو إليه الشارب، والذي من دونه لا تكون القهوة قهوة ويحكم على صانعها بالفشل.

ومنها الحبيبات الثقال التي اختارت منذ البدء أن يكون مكانها القاع، حيث السكون والركود.

فأخذت تتحرك لأسفل في سرعات متفاوتة مسلمة لقدرها في السقوط.

ومنها ما حاولت التشبث بالسطح ولكنها أخفقت في أن تجد لها مكاناً، فأخذت تهيم بين القمة والقاع. ربما لم تستطع الوصول للقمة ولكنها لم تسلم للسقوط في القاع.

كوب قهوة يعج بالحياة وتفاصيلها، ويمثل جميع أنواع البشر في اختزال عجيب.

فمنهم من يتصارع لأجل الوصول إلى القمة حيث الظهور والوهج السريع الذي ربما يعطي للحياة بريقها، ولكنّه لا يمثل المجتمع (ولا يعبر عن الطعم الحقيقي الدائم لكوب القهوة).

ومنهـم من يفضل الركون للراحة والتسليم الخاضع لمجريات الأمور، فلا يخوض معارك للوصول إلى القمة، ولا يقاوم السقوط للقاع. وهؤلاء -كما اختاروا- لن يكون لهم تأثير يذكر في الحياة، فهم لم يجربوها (ولن تمسسهم شفة الشارب المتذوق).

أما من يشكل الحياة بنبضها الحقيقي، فهم أولئك الذين يستمرون في السعي بين محاولة الصعود ومقاومة الهبوط، فهـم دائمو الحراك والتأثير فيمن حولهم، فيظـل أثرهم باقياً حتى وإن فارقوا الحياة، (وهم من يعطون القهوة طعمها ونكهتها التي تدوم في الحلق حتى بعد انتهائها).

يالها من حبيبات بُنٍ بشرية صنعت كوباً للحياة.

ارسال التعليق

Top