• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لماذا يخاف ابنك المدرسة؟

لماذا يخاف ابنك المدرسة؟

ما أكثر ما ينتاب الأطفال إحساس بالتوتر والخوف عندما يحين وقت المدرسة، قد يتكرر هذا الإحساس لاحقاً ويشتد ويحتدم فيتحول إلى امتناع ورفض للمدرسة. وبطبيعة الحال، يتفاجأ الأهل بسلوك الطفل، وتتملكهم الحيرة ولا يدرون سبباً لهذا الخوف الطارئ وذلك الرفض القاطع لارتياد المدرسة.

ويزداد الأمر استفحالاً حينما يترافق رفض الطفل بأعراض واضطرابات نفسية وجسدية وسلوكية، تحول بينه وبين المدرسة، وتفضي به إلى الانقطاع عنها لفترة قد يطول أمدها. فما دلالة هذا الخوف ومغزاه؟ وما مظاهره وأسبابه؟ ثمّ ما السبيل إلى تفاديه ودرء مخاطره؟

الإحساس غير السوي بالخوف المتصل بالمدرسة إن من حيث التفكير فيه أو ارتيادها والمكوث فيها، وما يقترن بسلوكه ذاك من ضيق وتوتر شديد ونفور بالغ، قد يفضي بالطفل إلى التغيب المتكرر، بل الانقطاع التام عن المدرسة في بعض الحالات الحادة. والملاحظ أنّ الخوف الشديد وما يصاحبه من اضطرابات انفعالية نفسية من خفقان وتعرق وارتعاش سرعان ما يختفي فور طمأنة الطفل بالعودة إلى البيت حيث بوسعه أن يذاكر دروسه في هدوء وأمان وربما بمجهود مضاعف يفوق ما كان يبذله في المدرسة. وإذا ما سعى الأهل إلى مراجعة الطفل وحثه على العودة تجده لا يوفي بما يعد به من فرط الرهبة التي تعاوده كلما همّ بالذهاب إلى المدرسة.

وحقيقة الأمر أنّ فترة الطفولة مرتع خصب لكثير من المخاوف التي تعتري الطفل وتخل بسكينته وهدوئه وطمأنينته. فحينما ينهي الطفل سنته الثانية أو الثالثة ويفكر أهله في إدخاله إلى روض الأطفال، ليس من المستبعد أن يتوجس خيفة من هذا العالم العجيب والغريب، ويتملكه شعور بالهيبة المقرونة بالتوتر والقلق شأنه في ذلك شأن بقية الأطفال حينما يهمون بولوج عتبة المدرسة لأول مرة. وقد يخبر الطفل شعوراً مماثلاً في مستهل كل عام دراسي أو عقب الرجوع إلى المدرسة بعد انتهاء العطل أو التوقف الاضطراري بسبب المرض أو نحوه.

* لماذا المدرسة؟

هنا يثور سؤال: إذا كانت حقيقة الرهاب هي كما ذكرت، فلماذا يظهر هذا الخوف من المدرسة؟ وما المقصود بالمدرسة تحديداً؟ لقد استوقف هذا السؤال غير واحد من المختصين طمعاً في مزيد من التحديد والتدقيق. وتبدو وجاهته في التنبيه إلى عمومية لفظ المدرسة واشتماله على أكثر من جانب. فهل المدرسة هي الفضاء المعماري مجسداً في مكان مخصوص كالفصل الدراسي الذي ينتمي إليه الطفل، أم هو الساحة أم مكتب المدير أم الحارس العام مثلاً؟ أم تراه الوضع الاجتماعي الذي يقتضيه انتساب الطفل إلى المؤسسة المدرسية وانتظامه فيها وما يترتب عن ذلك من واجبات وتكاليف؟ أم أنّ المدرسة هي هذا وذاك معاً أو شيء آخر؟

تفيدنا الملاحظة العيادية اليومية أنّ الحياة المدرسية امتحان صعب لمقدرة الطفل على التوافق والانضباط والتلقي والاكتساب والصبر. والتلاميذ ليسوا سواء في هذه المسألة، إذ نجد فيهم مَن لا يقوى على تحمل الشدة التي يتعرض لها جراء ما يُكرَه عليه من صمت وسكون وانتباه وجهد واجتهاد. فضلاً عن نظرة زملائه وتوقعات مدرسية وما يترتب عنها من نقد ولوم وتوبيخ وإهانة وزجر أو عقاب داخل الفصل، أو من قبل الأهل والأقارب. فالمدرسة من هذا الجانب إنما هي مؤسسة اجتماعية لها ما لغيرها من المؤسسات من مواصفات الإلزام والإثابة والعقاب.

* مظاهر الرُّهاب المدرسي وأعراضه

نجد في التباشير الأولى لبعض الحالات اضطراباً في النوم وصعوبة بالغة في الاستيقاظ صباحاً في أيام الدراسة، فإذا قام الطفل إلى المدرسة بدا كسولاً وخرج متلكئاً حتى إذا ما اقترب من مدخل المدرسة أحسّ بخفقان شديد ورعب عارم يحول بينه وبين تخطي عتبتها. ومنهم مَن تصيبه آلام حادة في المعدة أو صداع مفاجئ أو غثيان لا قبل له به من قبل، مما يعده الأهل تمرضاً أوما يشبه التمارض. وربما انتابته هذه الأعراض داخل حجرة الدراسة إثر وقوع عينيه على مشهد مؤثر أو تعرضه لزجر أو عقاب ونحو ذلك. أمّا في غير أيام الدراسة، فيستعيد ذلك الطفل حيويته ونشاطه وعافيته وكأن شيئاً لم يكن.

وكما تختلف طبيعة الأعراض البادية على نفسية الطفل أو سلوكه، تختلف أيضاً الفترة التي تبرز فيها أعراض الرهاب المدرسي. فمن الأطفال مَن تبدأ عليه أعراض البكاء الشديد الناتج عن الخوف الحاد المرتبط بالانفصال عن الوالدين ولا سيما الأُم والمصاحب بالرفض التام للمكوث في الفضاء المدرسي منذ الوهلة الأولى التي تطأه قدماه، وهو ما يتأكد لاحقاً. فكلما أزف وقت الذهاب إلى المدرسة اشتدت انفعالات الطفل واحتدمت مشاعر الرعب في نفسه وهو يهم بفراق أُمّه على حين غرة.

وفي حالات أخرى، تبرز مظاهر الرهاب المدرسي بعد أن يرتاد الطفل المدرسة ارتياداً منتظماً لا يدع مجالاً للشك في توافقه وتآلفه مع مدرسيه وبقية زملائه، فإذا به يفاجئ الأسرة بأعراض نفسية أو سلوكية تحوجه إلى المكوث في البيت لوقت قد يطول وقد يقصر تبعاً لحدة الأعراض والملابسات الثانوية خلفها.

وقد لوحظ في أحيان أخرى اقتران الرهاب المدرسي بجملة من الاضطرابات المتصلة بالأكل كضعف الشهية والغثيان والتقيؤ والدوار والصداع أو اضطرابات النوم والكوابيس. كما يقترن كذلك بأنواع أخرى من الرهابات كالخوف الشاذ من الحشرات أو الحيوانات أو الظلام أو الرهاب الاجتماعي، فضلاً عن الوساوس.

ولعل أخطر ما يتهدد الطفل في هذا الشأن الانقطاع المدرسي، وكفى به شرّاً! وتقاس خطورة هذا الضرر بمقدار ما باتت تمثله المدرسة في المجتمع العربي المعاصر من مكانة اجتماعية وبما تحظى به من اهتمام في حياة كل طفل، إذ ترتهن حياته ومساره المهني بما يناله من تعليم وما يحرز عليه من الدرجات والشهادات.

* بين الرهاب والهروب

ثمة خيط رفيع بين الرهاب المدرسي والهروب من المدرسة قلما ينتبه الناس إليه فيقع اللبس. وبيان ذلك أنّ التغيب المتكرر أو التهرب من ولوج المدرسة من العلامات الظاهرة على الرهاب المدرسي؛ لكن ليس كل تغيب عن الفصل أو هروب منه رهاباً مدرسياً. فمن يرهب المدرسة يرفض ارتيادها كرهاً لا طوعاً، فيتعذر عليه ارتيادها مهما بذله من جهد أو تلقاه من أوامر وزواجر.

وفضلاً عن ذلك، يميل إلى مخالطة رفاق السوء والتدخين وتعاطي المخدرات نتيجة غياب أحد الوالدين أو كليهما وتراخي السلطة الأبوية وما شابه.

* كيف يتصرف الأهل؟

قلما يفهم الآباء دوافع الطفل الذي يقع فريسة هذا الرهاب والأسباب النفسية الداعية لنفوره من المدرسة، ولا نعدم أن نجد ضمن أعضاء الهيئة التربوية والإدارية نفسها مَن يجهل طبيعة هذا الإحساس الذي يعكر صفو الحياة الدراسية لفئة غير قليلة من الأطفال في مختلف مراحل التعليم، ولذا يغلب أن يحمل الوسط الأسري والمدرسي سلوك الطفل على محمل التراخي والتدخل والتكاسل أو التمارض في أحسن الحالات.

ولا ريب أنّ الرغبة التي يبديها الآباء في تفهم مشاعر الطفل ومطالبه وسعيهم إلى مد يد المساعدة إليه وتهدئته وطمأنته وتوفير الجو الملائم للنمو الكامل والمتوازن كلها مواقف لا غنى عنها لقدرته على التصدي لملمّات الحياة ومصاعبها.

وبوسع الآباء كذلك أن يبادروا إلى فهم ما حصل اعتماداً على مبدأ التواصل القائم على الإنصات والحوار الهادئ. لا يحصل ذلك إلّا متى استشعر الآباء مدى ما يستشعره الطفل نفسه بحيث تتهاوى الفروق القائمة بينهم حسّاً ووجداناً وتعبيراً.

ومن هذا القبيل أن يتقبلوا مخاوف الطفل ويحملوها على محمل العناية والاهتمام بدل الاستهانة به أو السخرية منه والزراية عليه، وأن يهدئوا من روعه ويقفوا بجانبه بدل تجاهله أو القسوة عليه حينما تنتابه سورة الرهبة والهلع. أمّا الحماية الزائدة والشفقة المفرطة والمبالغة في الحذر والخوف فمما يحسن توقيه واجتنابه لئلا يتسرب الشك والوهن إلى نفسه. ولابد في هذا الصدد أيضاً أن نعلمه الأذكار التي تجدد إيمانه بخالقه وتبث الطمأنينة والسكينة في أعماقه وتبعث في نفسه التفاؤل والأمل. مثل هذه التصرفات كفيلة بتخفيف حدة الاضطراب وإشعار الطفل بأنه لا يقف وحيداً في مهب الانفعالات العاتية ورياحها العاصفة بسلامته النفسية وتوازنه العقلي.

* شيء عن الأسباب

من العوامل المتواترة أخص بالذكر عاملين إثنين:

- الخبرات الانفعالية العنيفة: إنّ من شأن تعرض الطفل لخبرات انفعالية أليمة مثل التعرض للعقاب النفسي أو البدني في مرحلة ما من مراحله الدراسية أن يشحنه بدفقات انفعالية بليغة ومؤثرة تحمله على الخوف من تجدد العقاب. ومن ثمّ تتحول مشاعر الخوف لديه من العقاب إلى الفضاء المدرسي برمته طبقاً لمبدأ التعميم.

- التعلق الشديد بالطفل: ومن ذلك ما نلاحظه عند بعض الأُمّهات أو الآباء من تعلق شديد بالأبناء وارتباط لم تنفصل بعد عراه رغم اجتياز عتبة السنوات الست الأُولى من العمر. وبديهي أن تتبادل المشاعر وتتفاعل الروابط على هذا النحو فيستجيب الأبناء استجابة انفعالية تفصح عمّا يلاقونه من حب وحنو ورعاية وخوف بالغ في تأجيج حرقة الفراق ولوعة الاشتياق إلى الأحضان الدافئة واللمسات الرقيقة ولو لسويعات في اليوم.

* ماذا عن العلاج؟

لا شكّ أنّ الاستشارة النفسية والتبكير في التشخيص والمبادرة بالعلاج أفضل وسيلة لمحاصرة هذا الاضطراب.

وقل مثل ذلك عن موقف المؤسسة التعليمية ودرجة وعيها وتشبعها بالثقافة النفسية في هذا المضمار.

وخلاصة القول إنّ الرهاب المدرسي من الاضطرابات النفسية الشائعة التي تصيب أطفال المدارس في كل مراحل التعليم. وقد سعيت في هذا المقال إلى تعيين مظاهره وأعراضه والوقوف على الأسباب الداعية إليه والمضاعفات المترتبة عنه، وفي مقدمتها الانقطاع الدراسي.

وقد تبين لنا أنّ ظهور الرهاب المدرسي لدى الطفل يستدعي الالتجاء إلى العيادة النفسية للفحص وتقديم العلاج النفسي الملائم في الوقت المناسب. فمن شأن التغافل عن أعراض هذا الاضطراب والتهوين منه أن يضاعف من تبعاته ويؤخر الشفاء منه، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بالحالات الحادة والمزمنة.

ولا شكّ أنّ استجابة الأسرة والمدرسة معاً أمر حاسم في نجاح العلاج والوقاية من مضاعفات هذا الاضطراب الذي يتسبب في إيقاف المسار الدراسي وضياع مستقبل الكثير من الأجيال أمام جهل الآباء وصمت المؤسسات.

ارسال التعليق

Top