• ١ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤ | ٢٦ صفر ١٤٤٦ هـ
البلاغ

استعادة التواصل مع الطبيعة

استعادة التواصل مع الطبيعة

نعيش اليوم في عصر باتت فيه الطبيعة ومكوناتها أشبه بعالم افتراضي بعيد لا يحظى إلّا بالقليل من اهتمامنا، ففي الوقت الذي تتوسع فيه مدننا الصديقة للأجهزة عالية التقنية، يزداد مدى وسرعة ابتعادنا عن الطبيعة.

لكننا، كما يقول الكاتب الأمريكي ديفيد لوي في كتابه «الشفاء عن طريق علم البيئة»، جزء لا يتجزأ من العالم الطبيعي؛ مما يعني أنّه يجب علينا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه سلامة محيطنا الحيوي؛ لأن سلامته متعلقة برفاهنا نحن كبشر. وفيما قد لا يؤدي إحضار النباتات إلى المنزل والعناية بها إلى إنقاذ كوكب الأرض، ولكنّه بالتأكيد يشكل حلاً، ولو بسيطاً لمشكلة انفصالنا عن الطبيعة أو، بكلام آخر، كما تقول المتخصصة في علم النباتات إيما سيبلي، إن: «العناية بالنباتات المنزلية ينبع من رغبة الناس في إعادة اتصالهم بالطبيعة الأم».

ولكن هناك فرقاً بين علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية الخارجية وكيفية تفاعله معها، وبين علاقته بالنباتات المنزلية. لاستكشاف هذه العلاقة يمكننا العودة إلى ما ذكره الكاتب الأمريكي المتخصص في الكتابة عن العلاقة بين الطبيعة والثقافة، مايكل بولان، في مؤلفه الذي يحمل عنوان: «الطبيعة الثانية: تعليم البستاني»، أنّه مع البستنة الداخلية، لا يوجد نقاش أخلاقي حول ماهية البرية البكر، لأن النباتات في البيئة الداخلية الشخصية يتم اختيارها عن قصد، ولا توجد نقاشات حول أخلاقيات مكافحة الآفات كما لا توجد حواجز بين البيئة البشرية وبقية الطبيعة البرية. ولكن بغض النظر، ووفقًا لبولان: «يجب على أي مجموعة من النباتات المنزلية أن تجعلنا نشعر بأننا دخلنا مكانا مميزاً - مكاناً ليس فقط منفصلاً عن الخارج، ولكنه مؤثر أيضاً - ويبدو أنّه لتحقيق ذلك، يجب على البستاني أن يضع نوعاً من الإضافة على النباتات الطبيعية، أي أن يحول «النثر» المكتوب فيها إلى شيء أقرب إلى «الشعر».

بالتالي، يجب دمج النباتات المنزلية في أرجاء المنزل ومساحات المعيشة فيه لخلق مناظر طبيعية فريدة وأجواء هي أقرب إلى نفحات شعرية تضفي سحراً وحياة على الأمكنة، حياة قد لا يمكن أن توفرها إلّا الطبيعة بأزهارها ونباتاتها الخضراء الممتلئة بالحياة.

 

تذكرنا بفنائنا نحن كبشر

على الرغم من أنّه قد يكون من الصحيح أنّنا نشعر بالسيطرة مع اعتنائنا بالنباتات المنزلية، ولكن لا بد أن تكون هناك تجارب غير ناجحة تؤدي إلى موت واضمحلال بعضها. فعلى الرغم من مدى اهتمامنا بها وإجراء الأبحاث حول كلّ نوع محدد من النباتات وكيفية العناية بها وتدوين ملاحظات حول توصيات كميات المياه والضوء المطلوبة ودرجة الحرارة ونوع التربة والسماد المناسب لكل منها، لا يمكننا في نهاية الأمر التحكم في دورة حياتها الطبيعية. يمكننا أن نحاول، ولكن حتى أكثر الأيادي الخضراء ستظل «تشهد خسائر» تمامًا مثل أفضل طبيب جراح عندما يخسر مرضاه حين يغلبهم الموت، فكلنا بشر ومحدودون.

وهذا يضعنا في مواجهة مباشرة مع فكرة الفناء، ويذكرنا بأنه مهما بلغت قدرتنا على السيطرة هناك حقيقة الموت التي لا يمكننا معها الإبقاء على التحكم لا بأنفسنا ولا بالبيئة المحيطة بنا. وهنا يمكن الإشارة إلى ما قاله الشاعر الأمريكي والت ويتمان في قصيدته: «أعشاب صدري المعطرة»، وهي قصيدة يخاطب فيها نبتة الوج المائية التي كما قال جعلته يفكر في الموت، فكتب يقول: «غالباً ما تكونين أكثر مرارة مما أستطيع تحمله، أنت تحرقينني وتلدغنني،/ ومع ذلك فأنت جميلة بالنسبة لي، فأنت بجذورك الباهتة، تجعلينني أفكر في الموت،/ والموت جميل منك». كما هناك استعارات عديدة من موت النباتات في قصيدة «موت الزهور» للشاعر الرومانسي الأمريكي ويليام كولين براينت الذي يتساءل فيها وهو في فصل الشتاء عن أزهار البنفسج والورود وعباد الشمس وزهور النجمة التي رآها في الربيع عندما كانت تقف منتصبة متبسمة، ومن ثم يعبّر عن إحساسه بالحسرة كونها باتت في قبورها تحت الأرض المحاذية إلى قبورنا نحن.

هكذا فالنباتات المنزلية تقدم أكثر بكثير من مجرد متعة بصرية؛ فهي قنوات قوية للتفكير الفلسفي والنمو الشخصي، سواء كانت موضوعة على طاولات منازلنا أو معلقة على جدران شرفاتنا أو قابعة على عتبات نوافذنا، فإن للنباتات المنزلية القدرة على لمس دواخلنا وإعطائنا دروسًا في الصبر والتواضع وفوائد التواصل مع الطبيعة. عندما نعتني بها ونرعاها، فإنّنا لا نرعى نموها فحسب، بل نبني أيضًا فهمًا أعمق لأنفسنا ولوجودنا في هذا العالم.

ارسال التعليق

Top