من هنا فإنّ الشخصية الأخلاقية للإنسان هي التي تشكل عنصره الأساسي وجوهره الأصلي الذي هو هدف الشرائع وبرامج بناء الإنسان، ولذلك كانت التربية الأخلاقية نظرياً وتطبيقياً في صدر قائمة التعاليم والتكاليف الدينية إلى جانب العقائد والشرائع، وقد تحدثت الروايات عن المرتبة العالية للأخلاق والتربية.
فعندما بعث النبيّ الأكرم (ص) معاذ بن جبل إلى اليمن من أجل تبليغ رسالة الإسلام أوصاه قائلاً: "يا معاذ علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة".
بالإضافة إلى هذه الفلسفة، فإنّ الشرائع والآداب والأحكام الإلهية افترضت أنّ تكامل الإنسان وخلوده لن يكون ميسوراً له إلّا بالأخلاق الفاضلة، فكّل الواجبات والمستحبات والنهي عن ارتكاب المحرمات والمكروهات يتعلق بشكل من الأشكال بالتربية والأخلاق. فالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الواجبات، هي رمز وعنوان لبناء الإنسان، وإذا ما فقدت هذه الأمور خاصية بناء الإنسان فسوف تفقد قيمتها وفلسفتها الواقعية، وهذه الحقيقة صرحت بها الآيات والروايات أيضاً.
فالقرآن الكريم يبيّن فلسفة الصلاة فيقول تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 1)، وبهذا التعبير يوضح القرآن دور الصلاة في عملية تزكية النفس، ثمّ نجده من جهة أخرى، وبعد أن يعطي وزناً للعمل العبادي، يجعل قبوله مرتبطاً بالتقوى والإخلاص وطهارة النفس والأخلاق الفاضلة فيقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).
قال الإمام الصادق (ع): "لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإنّ ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته"، وهكذا نلاحظ في هذه الرواية التأكيد على أنّ الصدق والأمانة، اللذين هما أصلان أخلاقيان، مقدّمان على طول العبادة، هذا مضافاً إلى ما للصلاة والسجود والركوع أصلاً من دور في مسيرة بناء الإنسان وتربيته الأخلاقية.
وعن عليّ (ع): "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والعناء".
ومثل من لا يصلح أخلاقه أو لم يبتعد عن المعاصي فينهض بأعماله راجياً تزكية نفسه مثل من يزرع البذر في أراضي سبخة، ومن الواضح أنّ هذا الزرع لا يثمر النتيجة المتوخاة.
وبذلك تكمل الأخلاق والعبادات بعضها البعض فتؤثر الأخلاق في العبادات وتتأثر بها. وكذلك العبادات تؤثر في الأخلاق وتتأثر بها، وهما معاً يشكلان كياناً متصلاً لكلّ جزء منه دور مميّز في تكامل الإنسان.
وقد ورد في الروايات "إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار"، وقال النبي (ص): "ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن"، وعن الرضا (ع): "عليكم بحسن الخلق إن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة"، وقال: "أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وأبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات".
فالإسلام ليس عقيدة مادية وحسب بل مادية ومعنوية معاً، فالإسلام يقبل الماديات في كنف المعنويات التي هي الأخلاق وتهذيب النفس، فقد جاء الإسلام من أجل تهذيب الإنسان وإصلاحه، كما أنّ كلّ الأديان التوحيدية جاءت من أجل ذلك، إنّ هدف الإسلام وهدف جميع الأنبياء هو إصلاح الإنسان، فلو تربى الإنسانية تربية صالحة فلن يكون هناك مشاكل وسوف تجد كلّ مسألة حلاً.
من هنا نستطيع الوصول إلى معرفة شرف العلم والتربية والأخلاق؛ لأنّ شرف كلّ علم يرتبط بشرف موضوعه، من هنا كان علم معرفة الله من أشرف العلوم لأنّ موضوعه هو الذات المقدسة الواجبة الوجود وصفاتها وأفعالها. وبعد أصول العقائد فإنّ التربية والأخلاق بمفهومها الإسلامي تأتي في صدر العلوم والفنون، وذلك لأنّ موضوعها هو الروح والنفس الإنسانية أو تلك النفحة السماوية التي وضعت في ذلك الجسد الترابي من أجل أن يتكامل ويصبح لائقاً لحمل الأمانة الإلهية أي خلافة الله في الأرض عبر الإتصاف بالصفات الإلهية والتطهر من الأدران.
ولهذا نجد أنّ بعض المحققين أطلق على علم الأخلاق اسم (الفقه الأكبر) وبعضهم سماه (الطب الروحاني) وذلك لأنّ الأخلاق إنما هي شريعة الباطن وهدفها سلامة الروح ومعالجة الأمراض النفسانية.
إنّ دور التربية هو مساعدة براعم الشخصية الواقعية للإنسان على التفتح، ونقل استعداداتها المخفية من القوة إلى الفعل، فبدون التربية والأخلاق لن يستطيع الإنسان الحصول على شخصيته الواقعية ولن تتضح له هويته المستقلة، وكلّ ما يحصل عليه خارج هذا الإطار لن يكون من إنسانيته الذاتية. وكما يقول الفيلسوف "كانت" (بالتربية والتعلم فقط يصبح الإنسان قادراً، فالإنسان ليس أكثر من ذلك الذي تصنعه التربية)، وذلك لأنّ شرف الإنسان إنما هو بروحه الملكوتية، وامتيازه على سائر الموجودات مرهون بخصائصه الإنسانية التي تسعى نحو القيم المعنوية الإلهية.
وليست القوى النباتية والحيوانية في الواقع إلّا الأرضية والمعدات للرشد الإنساني والكمال المعنوي من أجل الوصول بالإنسان إلى الدرجات العالية والسعادة الخالدة، والتربية والأخلاق يستطيعان إيصال تلك الروح الملكوتية إلى أوج الكمال وإظهار وجهها الواقعي الإنساني، وقيادتها من منزل النفس إلى منزلة الحقّ ومن عبادة الذات إلى عبادة الحق.
وعلى نحو الخلاصة:
للتربية والأخلاق دور في بناء شخصية الإنسان بحيث أنّه لن يصل بدون ذلك إلى الخير والكمال ولن يحصل على السعادة الدنيوية والأخروية. وإنّ إحياء شخصية الإنسان وفلاحه واستقامته إنما هو بفضائل الأخلاق، كذلك سقوطه وضياعه إنما هو برذائل الأخلاق، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10).
والقرآن الكريم الذي هو على رأس الأديان، وتمام الكتب حتى تلك الإلهية منها، إنما نزلت لكي تصلح الإنسان وتنقله من القوة إلى الفعل وتجعله موجوداً فعلياً، وكلّ دعوات الأنبياء، مهما اختلفت مراتبهم، إنما كانت لأجل ذلك، كذلك الأحكام العبادية وغيرها، جاءت لتجعل الإنسان الناقص كاملاً.
إذن فالتربية والأخلاق بالمفهوم الديني تقومان بإحياء شخصية الإنسان وهويته الواقعية الإنسانية وبإيصاله إلى أعلى الكمالات المعنوية.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق