• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النكبة في عيون مفجري الثورة الأوائل

د. إبراهيم أبراش

النكبة في عيون مفجري الثورة الأوائل

إحياء الشعب الفلسطيني للذكرى 71 للنكبة يؤكّد أنّ حرب 1948 أو ما تُسمّى النكبة ليست مجرد هزيمة عسكرية أو سياسية للجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية، ولم تكن مجرّد جولة من الجولات التي خاضها الشعب العربي الفلسطيني وما زال ضد الحركة الصهيونية وإسرائيل، أو حالة شبيهة بالمعارك  التي تخوضها الشعوب المقهورة وحركات التحرّر ضد مستغليها وقاهريها، بل كانت وما زالت أعظم وأخطر جرائم الحرب والتطهير العرقي، حيث أدّت حينها إلى شطب اسم دولة فلسطين من على خارطة العالم وإحلال اسم «دولة» جديدة مصطنعة محلها - إسرائيل -، بالإضافة إلى تداعياتها المدمِرة على المجتمع الفلسطيني سياسياً واجتماعياً ونفسياً.

وَقّعُ النكبة الأليم والشكل الصادم للنكبة، وخيانة بعض العرب حتى من الذين شاركوا في الحرب، للشعب الفلسطيني أثر على نفسية الشعب ومداركه، حيث كانت النكبة ومشاهدها المأساوية حاضرة بقوّة في وجدان وذاكرة القادة الأوائل للثورة الفلسطينية المعاصرة وهم يهيئون لإعادة استنهاض الشعب والهويّة الوطنية والردّ على الهزيمة التي تسبّبت فيها سبعة جيوش عربية ودفع ثمنها الشعب الفلسطيني.

في هذا السياق تحدّث القائد الفتحاوي كمال عدوان عن النكبة وتأثيرها: «بفعل النكبة أصبح الفلسطينيون شعباً تائهاً مشرداً، يعاني الأمرين في معسكرات للتجمّع تتناثر في الأقطار العربية وفاقداً وعيه وفكره، يعيش في ذهول بسبب الحركة السريعة التي تطوّرت بها الأحداث من حوله» (فتح الميلاد والمسيرة: حديث مع كمال عدوان « شؤون فلسطينية، العدد 17، يناير 1973») .

كان وقع النزوح واللجوء قاسياً رهيباً حيث زعزع أُسس المجتمع الفلسطيني وأحدث اضطراباً في قيمه ومعتقداته، كانت الضربة قاسية على النفس، جارحة للإحساس، أن يتحوّل الإنسان فجأة من مواطن كريم في وطنه إلى لاجئ يعامَل كمواطن من درجة ثانية شيء لا يُطاق. لقد تحوّل الشعب الفلسطيني بفعل النكبة إلى شعب مفكك البنية الاجتماعية، فاقد لعملية التفاعل والتواصل الاجتماعي بين أفراده وطبقاته، هذه العملية التي تشكّل الأساس الضروري في تشكيل القاعدة التي تنبع منها القيم والأفكار والمبادئ وعلى أرضيتها تُصاغ أُسس التعامل وأهداف المستقبل.

في أرض الغربة أصبحت مهمّة غالبية الفلسطينيين البحث عن لقمة العيش وما يسدون به رمقهم، في المنفى عاش اللاجئون في ظروف تنظر إليهم فيها الحكومات العربية كحمل ثقيل، ومصيبة نكراء وقعت عليهم وعلى حدِّ قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش «منذ أن ألقت حراب الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطيني» «ضيفاً على إخوته العرب - هكذا سموا اللاجئ في البداية - قدّموا له كلّ الوعود التي لا تتحقّق وظل مطارداً بما هو أكثر من التمييز، كان موسوماً بالعار، إنّه متهم ومطارد ومشار إليه أنّه لاجئ، أنّه التائه الجديد»، فكيف يمكن لإنسان دون مأوى ودون أمل ودون مستقبل، جائع عار، مطارد، أن يفكر بشيء غير لقمة العيش؟

كانت هموم الفلسطيني «التائه» متواضعة محدودة في نظر الإنسان العادي لا تتعدى تأمين المأوى ولقمة العيش ورد المهانة، ولكنّها بالنسبة للفلسطيني كانت بمثابة رحلة طويلة مع العذاب والمعاناة، فلا الأقطار العربية كانت مهيأة لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين ولا الأُمم المتحدة مهتمة جدياً بهذه القضية بالإضافة إلى غياب القيادة الفلسطينية المسؤولة. (شفيق الحوت، الفلسطيني بين التيه والدولة، بيروت، 1977)، كانت المعاناة أكثر وطأة وقسوة، عندما كانت أصابع الاتهام تشير على الفلسطيني بأنّه مسؤول عن نكبته  وبأنّه باع أرضه لليهود!! وقد حاولت بعض الأنظمة العربية زرع مثل هذا الوهم عند جماهيرها لتسقط عن نفسها مسؤولية ما حدث في حرب 48، ومارست على الإنسان الفلسطيني كلّ أنواع القهر والاضطهاد، وقتلت كلّ بارقة أمل أمامهم، وجعلتهم مجرد أرقام في سجلات المخابرات ومكاتب وكالة غوث اللاجئين.

ضمن هذه الظروف والأوضاع تشكلت نفسية الإنسان الفلسطيني «لاجئ» أبغض كلمة في قاموس اللغة العربية على قلب الإنسان الفلسطيني، بما أضحت توحي به من معاني القهر والسحق والإذلال، نفسية تفشت فيها روح إتكالية، أفقدت الفلسطيني الرغبة في عمل أي شيء وفقد الأمل في تحقيق أي شيء، وتفشت اللامبالاة، التي جعلت الفلسطيني رقماً مهمشاً في مجريات الأحداث، وكأنّ ما يجري حوله لا يعنيه، فقد الثقة بنفسه وبمن حوله، وأصبح يعيش حالة من الإحساس بفقدان الأمان المستمر والدائم، والذي عزّزته حالة التسلّط التي مارستها عليه بعض الأنظمة ومعاملته كمواطن من درجة ثانية، الأمر الذي ولَّد لديه عقدة الاضطهاد، وسياسياً فرض واقع الغربة والتشرد على مَن كان نشيطاً سياسياً من الفلسطينيين، أن يعيش حيلة اللجوء السياسي التي تُحيل الحياة إلى معاناة وقلق رهيب، كفيلة بتشويه أحاسيس كلّ مناضل يحترم نفسه، وتدمير إيمانه بالغد وتشويه نظرته إلى الوجود (كمال ناصر، «مذكرات لاجئ سياسي»، شؤون فلسطينية العدد 44 ، إبريل 1975).

ضمن هذا  الجوّ المُحبط لكلّ شيء غرق الفلسطيني في متاهات الشكّ، فأصبح يشكّ في كلّ شيء، وهي حالة نفسية من الصعب على الفرد أن يُكوِّن قناعة تامة وثابتة حول أية أيديولوجية، أو فكر أو موقف، والكفيلة بتدمير كثير من القيم التي تربّى عليها، وفي الوقت نفسه تجعل من الصعب عليه فرز قيم جديدة وقناعات جديدة، ويبقى موقفه سلبياً يتابع الأخبار والأحداث التي يصنعها أو يصنعها له غيره (فتح، الميلاد والمسيرة: حديث مع كمال عدوان)، أمّا جورج حبش القائد المؤسّس لحركة القوميين العرب ولاحقاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فيتحدّث عن تأثير النكبة قائلا: «لقد شعرت بالإهانة في أحداث 1948، فقد أتى الإسرائيليون إلى اللد وأجبرونا على الفرار، إنّها صورة لا تغيب عن ذهني ولا يمكن أن أنساها، ثلاثون ألف شخص يسيرون، يبكون، يصرخون من الرعب، نساء يحملن الرضع على أذرعهن والأطفال يمسكون بأذيالهن والجنود الإسرائيليون يشهرون السلاح في ظهورهن، بعض الناس سقط على قارعة الطريق وبعضهم لم ينهض ثانية، لقد كان أمراً فضيعاً ما أن ترى ذلك حتى يتغير عقلك وقلبك، فما الفائدة في معالجة الجسم المريض عندما تحدث مثل هذه الأُمور، يجب على الإنسان أن يغيّر العالم، أن يقتل إذا أقتضى الأمر، يقتل ولو أدّى ذلك إلى أن نصبح بدورنا غير إنسانيين» (باسل الكبيسي، حركة القوميين العرب، دار العودة، بيروت، ص: 77) .

وما زالت النكبة حاضرة فينا وأضيف لها نكبة الانقسام، فهل ستفجر النكبة الجديدة ثورة كما فعلت النكبة الأولى؟.

ارسال التعليق

Top