وهو ما عبر عنه الشاعر أحمد شوقي بقوله:
وإنما الأُمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقد ورد عن رسول الله (ص): "حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة".
والأخلاق هي التجلي الأمثل لإنسانية الإنسان، فمن دون الأخلاق لا يكون الإنسان إنساناً، فهي الكاشفة عن حقيقة الذات.
وإذا كانت الأخلاق مهمة في كلّ عصر ولكلّ مجتمع بشري، فإنّها في عصرنا الحاضر ولمجتمعاتنا أشد إلحاحاً، وذلك للأسباب التالية:
أوّلاً: قوة الحالة الذاتية الأنانية عند الإنسان.
شعور الإنسان بذاته واهتمامه بنفسه وتمحوره حول مصالحه الشخصية، في كثير من الأحيان والحالات يكون على حساب الالتزام الأخلاقي، وهي في هذا العصر أقوى من أي عصر مضى.
ثانياً: قوة النزعة المادية في حياة الإنسان.
نزوع الإنسان إلى المادة وحب الخير حالة طبيعية في كلّ عصر ومصر، يقول تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8).
لكنّنا في هذا العصر نجد أنّ هذه النزعة أكثر عمقاً وتمكناً في شخصية الإنسان ونفسه، وذلك لأسباب مختلفة، وهذه النزعة المادية غالباً ما تكون على حساب الالتزام الأخلاقي.
ثالثاً: تغول التوجهات المناوئة للفضائل الأخلاقية.
لم يعد الانحراف والفساد الأخلاقي مجرد ممارسة فردية، ولم يعد مجرد توجه عصابة أو فئة أو تيار من الناس، بل أصبحت هناك مؤسسات ضخمة وشركات دولية عالمية، ومصالح مرتبطة بهذه الجهات تربح وتستثمر وتثري من خلال الدعوة إلى الفساد الأخلاقي، وهذا ما نلحظه من خلال انتشار كثير من الظواهر:
1- المواقع الإلكترونية الإباحية والإجرامية:
تذكر إحدى الإحصائيات أنّ هناك أكثر من 140 ألف موقع إباحي باللغة العربية، ومع ازدياد أعداد مرتادي المواقع الإلكترونية بشكل عام، يزداد عدد المتأثرين بهذه المواقع.
كما تنتشر في الإنترنت المواقع التي تعلم طرق الانتحار والسرقة والغش، وسائر الجرائم.
2- القنوات والمحطات الفضائية.
وما تحويه من برامج وأفلام، تشجع على العدوان والخيانة الزوجية، وألوان الانحرافات الأخلاقية والسلوكية.
3- مافيا المخدرات.
فهذه القوى المناوئة للفضائل الأخلاقية تعمل بكلّ جهد وبكلّ قوة، وقد تغولت في حياة البشر، ودخلت بوسائلها المتعددة إلى المجتمعات المحافظة، مما يستدعي ضرورة التحرك الجاد لمواجهتها.
ما هو المطلوب من الجهات الدينية؟
يتساءل البعض قائلاً: مع كلّ هذه الجهود من العلماء والمصلحين والخطباء لا تزال المفاسد والانحرافات موجودة!!
فما هو الحلّ؟ وما هو المطلوب؟
نقول: إنّ ما نراه من تعدد مظاهر الفساد واستشرائها مع سعي المصلحين وتحركهم هو أمر طبيعي، فحتى في مجال الطب والصحّة الجسدية، هناك كليات طب، ومصانع أدوية، ومستشفيات ومراكز صحّية، وهناك أبحاث ودراسات طبية، وفحوص ومختبرات وأجهزة متطورة، ومع كلّ ذلك لم تنتهِ الأمراض في حياة البشر!
بل في كلّ مدة زمنية نسمع عن مرض جديد، لم يكن معروفاً من قبل، كما نسمع اليوم عن مرض (كورونا)، فهل يمكن القول: إنّ المستشفيات ليس لها فائدة؟! أو كليات الطب ليس لها داعٍ؟!
فلا نستطيع أن نتحدث عن إنهاء هذه الحالة، وإنّما ينبغي أن يكون الحديث عن مواجهتها والحد من تأثيرها، فهو صراع بين الخير والشر.. بين الفضيلة والرذيلة، وهي معادلة الحياة من بدايتها إلى نهايتها.
ليس المطلوب من الحالة الدينية أن تنهي وتستأصل حالة الفساد والانحراف، فهذا ليس متوقعاً، بل المطلوب أن لا تُترك ساحة الحياة فارغة خالية لدعاة الفساد والانحراف، يجب على دعاة الخير أن يتحركوا ويواجهوا، ويحاولوا أن يكونوا أكثر تأثيراً وأكثر نفوذاً، فجهات الشرّ موجودة ما دام الشيطان موجوداً.
إنّ وجود الشيطان رمز لاستمرار الصراع بين الخير والشر في حياة البشرية، لكن في بعض العصور والأوقات، وفي بعض المناطق والمجتمعات ترجح كفة الشر على كفة الخير، فنحن نعيش اليوم في عصر تمتلك فيه كفة الانحراف والفساد إمكانات وقدرات كبيرة جدّاً، وهذا ما ينبغي أن يحفز ويدفع دعاة الخير والفضيلة إلى أن يزيدوا من جهدهم، ومن دورهم ونشاطهم، فكما هو الحال في مختلف الجوانب، في هذا الجانب أيضاً تكون المعادلة قائمة على الصراع.
يقول تعالى: (.. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 40).
مجتمعاتنا التي كانت في السابق مجتمعات محافظة، لها هُويّتها ولها اهتماماتها الدينية التي تجعلها أقرب إلى الالتزام الأخلاقي في مجالات كثيرة، نجدها اليوم في حالة تراجع، فالالتزام الأخلاقي الآن في حالة تصدع، قياساً إلى ما مضى، وقياساً إلى ما هو متوقع من مجتمعات تنتمي إلى هوية دينية محورها الأخلاق والقيم، وهذا أمر طبيعي، فنحن نعيش في عصر العولمة، حيث ما عادت هناك حواجز وحدود، فما يجري في أنحاء العالم ينعكس على مجتمعاتنا ويؤثر فيها، لذلك نلحظ مظاهر التصدع الأخلاقي آخذة في الاتساع.►
المصدر: كتاب صنع البيئة الأخلاقية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق