إنّ النفط ثروة وطنية عامة عملت بعض الدول على توظيفه بالشكل الذي يخدم اقتصاداتها، في حين لم ينجح العض الآخر توظيفه بما يخدم عملية البناء الاقتصادي السليم
على الرغم من وجود بعض مصادر الطاقة البديلة للنفط سواء كانت متجددة أم غير متجددة، إلا أنها لا تزال تحتل المرتبة الثانية بعد النفط، وذلك لأنها لم تستطع أو لم يستطع التطور التكنولوجي، حتى الوقت الحاضر، من إيجاد البديل الذي يضاهي مميزات النفط بالمجمل العام، حيث تعطي بعض مصادر الطاقة طاقة كبيرة تعادل أضعاف ما يعطيه النفط إلا إن تكاليف إنتاجها أو تأثيراتها على البيئة تكون كبيرة جداً أيضاً، لا تقارن بتكاليف إنتاج النفط أو تأثيراته على البيئة، ولذا لا يمكن اعتمادها محل النفط، فأصبح ولا يزال هذا الأخير(النفط) في مقدمة المصادر وأولها.
بلدان تقدمت وأخرى تراجعت
هناك العديد من البلدان التي يطلق على اقتصاداتها بالاقتصادات النفطية أو الريعية، لاعتمادها الكبير على النفط، حيث استطاع قسم من تلك البلدان أن توظف النفط بالشكل الصحيح ليخدم اقتصاداتها وإضفاء عليها طابع "المتانة والتجدد"، وهذا ما يسهم في تمتع مجتمعاتها الحالية والمستقبلية بالرفاه الاقتصادي، وهذا يعود للإدارة السليمة التي تتميز بصفتين أساسيتين "البعد الستراتيجي" الذي ينظر إلى مستقبل البلد في ظل غياب النفط، و"الإرادة الحقيقة" الجادة فعلاً لبناء دولة تخدم الموطن حالاً ومستقبلاً.
في حين إن القسم الآخر لا يزال غير قادر على توظيفه (النفط) بالشكل الذي يضفي على اقتصاداتها صفة "المتانة والتجدد" بل لا زالت تعاني من الصدمات النفطية والتقلبات الاقتصادية، وهذا ما جعل مجتمعاتها غير مستقرة تترقب خوفاً مما يحصل لأسعار النفط، انخفاضاً وارتفعاً، سواء كانت الأسباب طبيعية أم اقتصادية أم سياسية أم غيرها، وهذا يرجع لغياب الإدارة السليمة ذات الإرادة الحقيقة والبعد الستراتيجي، بل إنها إدارة عشوائية، فاقدة لرؤيا متوسطة المدى-وليس بعيدة- لما يكون عليه الاقتصاد والمجتمع في المستقبل المنظور فما بالك بالمستقبل البعيد؟!! والدليل هي لم تحافظ على ما متاح وإنما أدت إلى تراجع اقتصاداتها، إلى الخلف.
النفط ثروة وطنية للجميع
ومادام النفط هو ثروة وطنية للجميع، لا يختص بفئة دون أخرى وجيل دون آخر، ولا يجوز توظيفه بالشكل السلبي الذي يمنع تقدم الاقتصاد ويعيق بناءه بالشكل السليم، لذا فمن حيث العقل والشرع(خلق لكم ما في الأرض جميعاً) والمنطق الاقتصادي، أن يتم توزيع ثماره على الجميع، بين الأجيال الحالية من جهة والأجيال اللاحقة من جهة أخرى، وبما يحق العدالة الاجتماعية، وتوظيفه بالشكل الذي يزيد من متانة الاقتصاد ويضفي طابع الاستمرارية عليه، حتى يكون قادر على الوقوف بوجه الصدمات النفطية والتقلبات الاقتصادية التي كان يتعرض لها كنتيجة لاعتماده على النفط بشكل كبير جداً. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يتم توظيف النفط حتى يكتسب الاقتصاد المتانة والاستمرارية؟
يمكن توظيف النفط بالشكل الذي يفضي إلى تحقيق التنويع الاقتصادي الذي من شأنه أن يحقق المتانة للاقتصاد ويضفي عليه الاستمرارية، حيث أن التنويع الاقتصادي يشير إلى أمرين: منها، تفعيل الاقتطاعات الاقتصادية بمجملها كالزراعة بفرعيها النباتي والحيواني، والصناعة بفرعيها الاستخراجية وخصوصاً التحويلية، والتجارة بفرعيها الداخلية والخارجية، والسياحة...إلخ. ومنها تنويع قيادة الاقتصاد، أي أن لا تقتصر قيادة الاقتصاد على القطاع العام، ولابد من فسح المجال للقطاع الخاص بما يساهم في بناء الاقتصاد بشكل حقيقي وعدم السماح له ممارسة الأدوار الهامشية سعياً وراء الربح فقط.
استخراج النفط في العراق.. استنزاف للثروة
أما في العراق فقد يبدو من خلال النظر إلى بعض المؤشرات الاقتصادية، ان استخراج النفط فيه يمثل استنزافاً للثروة وليس بناء للاقتصاد الوطني، ويمكن توضيح كيف استخراج النفط هو استنزاف للثروة النفطية، من بعض المؤشرات الاقتصاد الآتية:
أ- الناتج المحلي الإجمالي، حيث نلاحظ من خلال بيانات البنك المركزي العراقي في تقريره لعام 2015، إن مساهمة النفط لا تزال تحتل مرتبة الصدارة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي عندما شكلت 51.7% و59.9% منه في عام 2014 و2015 على التوالي مقارنة بمساهمة النشاطات الأخرى التي شكلت 48.3% و40.1% منه لنفس العامين. هذا ما يعني إن النفط لم يوظف لحد الآن في بناء الأنشطة الاقتصادية ومن ثم الاقتصاد برمته، بل لا يزال استنزافه باستمرار، لأنه لو حصل التوظيف الصحيح من أجل البناء لارتفعت مساهمتها في الناتج، وتضاءلت مساهمة النفط، في حين إننا نلاحظ من خلال هذه النسب إن النفط بارتفاع والأنشطة الأخرى بانخفاض.
ب- الإيرادات النفطية، تشير الإيرادات النفطية بشكل واضح في مدى استنزاف العراق لثروة النفطية العامة، وذلك من خلال مقابلة نسبة الإيرادات النفطية للنفقات الاستهلاكية.
حيث تشكل الإيرادات النفطية من الإيرادات العامة نسبة كبيرة جداً، إذ بلغت نسبته من الإيرادات العامة أكثر من 91% و77.2% في عاميّ 2014 و2015، وبما إن النفقات الاستهلاكية تشكل أكثر من 86.5% و73.62% من النفقات العامة لنفس العامين، لذا فإن هذه النسب تشير إلى نقطة غاية في الأهمية وهي إن النسبة الأكبر من النفط تذهب للاستهلاك وليس للاستثمار الذي يخدم عملية البناء الاقتصاد، فهذا يعني ان استخراج النفط هو استنزاف للثروة الوطنية وليس بناء للاقتصاد الوطني.
ولابد من الإشارة إلى انخفاض نسبة الإيرادات النفطية وكذلك انخفاض النفقات الاستهلاكية بين عاميّ 2014 و2015، لا تنبع من كون حصول زيادة في الإيرادات الأخرى وزيادة النفقات الاستثمارية، وإنما السبب الحقيقي وراء ذلك الانخفاض يعود لانخفاض أسعار النفط.
ج- الصادرات النفطية، حيث تشكل الصادرات النفطية في العراق نسبة كبيرة جداً، حيث تتجاوز نسبة 99% (تضم معها الكبريت والفوسفات) من اجمالي الصادرات السلعية العراقية، في حين سجلت الفقرات الأخرى النسبة المتبقية البالغة 0.8% في عاميّ 2014 و2015 على التوالي. هذا ما يدلل على إن العراق ليس لديه تنوع اقتصادي قادر من خلاله على إشباع الحاجة المحلية ومن ثم تصدير الفائض نحو الخارج، وما يدلل على فقدان قدرته لإشباع الحاجة المحلية، هو استيراده لأغلب المنتجات من الخارج، حيث تشكل الاستيرادات ما نسبته 38.77% و47.33% من حجم التجارة الخارجية (الصادرات + الاستيرادات) لنفس العامين، ويقوم العراق بتسديد فواتير هذه الاستيرادات من الصادرات النفطية، وهذا ما يزيد من استنزاف العراق لثروته النفطية، لكن الشيء الذي يبعث نوع من الأمل في الاستيرادات هو إن فقرة المكائن ومعدات النقل تحتل أعلى نسبة من إجمالي الاستيرادات وهي 38.5% لعاميً 2014 و2015، وعلى الرغم من هذا الأمل إلا ان المدة كانت أكثر من ثلاثة عشر سنة، ألم تكن كافية لتحقيق نوع الاكتفاء الذاتي؟!، فهذا ما يدلل على غياب الإدارة الحكيمة ذات البعد الستراتيجي.
نستنتج مما سبق وخصوصاً المؤشرات الاقتصادية، إن العراق لم يعمل على تحويل الثروة الوطنية المتاحة في باطن الأرض إلى ثروة وطنية فوق الأرض عبر الاستثمار ليتم تحقيق بناء اقتصادي قادر على مواجهة الصدمات النفطية والتقلبات الاقتصادية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الأفراد سواء ما بين الجيل الحالي والأجيال الحالية والمستقبلية.
ولذا ينبغي العمل على استخراج النفط لتحقيق البناء الاقتصادي من خلال نقطتين أساسيتين هما:
أولا: توظيف الإيرادات النفطية بما يؤدي إلى تنشيط القطاعات الاقتصادية التي تمت الإشارة إليها أعلاه.
ثانياً: فسح المجال للقطاع الخاص لإدارة الاقتصاد وتكون الدولة في خيار أن تتشارك معه أم تتولى مسألة الإشراف على مسيرته في البناء الاقتصادي السليم.
ملاحظة// النسب الواردة أعلاه مأخوذة من التقرير الاقتصادي السنوي للبنك المركزي العراقي لعام 2015.
* الكاتب باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق