في الرّواية، أنَّ رسول الله (ص) خطب المسلمين في آخر جمعة من شعبان، فقال:
«يا أيُّها النَّاس، إنَّه قدْ أقبلَ إليكم شهرُ الله». وكلمة «شهر الله» توحي بمعنى يجعل الزَّمن هنا زمناً إلهيّاً يحمل العنوان الإلهيّ في كلّ ساعاته وأيامه ولياليه، لأنّنا نعرف أنَّ الشّهور كلّها من عند الله، فهو الَّذي خلق الزمن وقسّمه من خلال الظَّاهرة الكونيَّة التي تحدِّد الزمن في مشهوره، كما تحدّد الزّمن في أيامه ولياليه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التَّوبة/ 36). فالشّهور كلّها من عند الله، وهي خلق الله، ولكنَّ الله اختصَّ هذا الشَّهر بأن نسبه إليه، على ما جاء في حديث الرسول (ص)، ليقول لنا: أيّها النَّاس، إنّ عليكم أن تحركوا كلَّ هذا الزمن في آفاق الله، لتكون ثوانيه ودقائقه وساعاته وأيَّامه ولياليه انفتاحاً على الله.
فليكن عقلك عندما تفكِّر عقلاً منفتحاً على الله في الحقّ والخير، وعندما تحرّك عاطفتك في قلبك، باعتبار أنّ القلب هو مخزن العاطفة، فإنَّ عليك أن تجعل عاطفتك عاطفةً منسجمةً مع الخطّ الَّذي يرضاه الله، بأن تحبّ في الله وتبغض في الله، وأن توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله، وعندما تتحرّك، فلتكن حركتك إلهيّة سائرة في الخطِّ المستقيم الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه، وفي الأجواء الخيّرة التي يريد الله للناس أن يتنفّسوها. وفي كل حركة يمكن للإنسان أن يركّز فيها حقاً أو يقيم عدلاً أو ينفتح فيها على كلّ ما للإنسان فيه معرفة واستقامة.
«قدْ أقبلَ إليكم شهرُ الله» محمَّلاً بالبركة والرحمة والمغفرة، فهو موقع البركة في أعماركم وأرزاقكم وفي كلّ طاقاتكم، وهو مخزن الرَّحمة التي يرحم الله فيها عباده بكلِّ مواقعها وآثارها وبكلِّ فيوضاتها. وإذا عرفنا أنّ وجودنا هو مظهر لرحمة الله، وأنَّ النعم التي يغدقها الله علينا هي مظهر رحمة الله فينا، وأنَّ طاقاتنا التي أودعها الله في كياننا هي مظهر رحمة الله، وأنَّ كلَّ ما يحيط بنا، وكلَّ من يحيط بنا ممّا يتّصل بحياتنا ويغنيها، هو مظهر رحمة الله، فكم هي هذه الرحمة الرمضانية التي تختصر رحمة السنة كلّها بالبركة والرحمة والمغفرة.
فماذا تنتظر ذنوبنا الّتي أثقلت ظهورنا وإحساسنا ومشاعرنا، وجعلتنا نتحرّك في أجواء الحياء من الله أنّنا عصيناه وهو يغدق علينا نعمه، كما عبّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في دعائه: «تتحبَّب إلينا بالنِّعَمْ ونُعارِضُك بالذّنوب، خيرُك إلينا نازِل، وشرّنا إليك صاعد، ولم يَزَلْ ولا يزال مَلَكٌ كريم يأتيك عنّا في كلّ يوم بعملٍ قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بِنِعَمِك، وتتفضّل علينا بآلائك، فسبحانك ما أحْلَمَكْ وأعظَمَك وأكرمك مبدئاً ومعيداً!»، قد أقبل إلينا وهو يحمل لنا المغفرة لذنوبنا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق