◄قيمةُ الناس لا تُقاس بكثرتهم وحجمهم؛ إنّما تُقاس بنوعيتهم وما في رؤوسهم من علمٍ، وما في قلوبهم من إيمان، وما يُثمر الإيمان من عمل. حتى العمل لا يُقاس بحجمه ولا عدَدَه، إنّما يُقاس بمدى إحسانه وإتقانه.
وإحسانُ العمل في الإسلام ليس نافلةً بل هو فريضةٌ كتبها الله على المؤمنين كما كتب عليهم الفرائض.
قال (ص): "إنّ الله كتب الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإن قتلتُم فأحسنوا القتلة، وإذا ذَبَحْتُم فأحسنوا الذَّبْحَ، وليُحِدَّ أحدُكُم شفرتَهُ، فليُرِحْ ذَبيحتَهُ".
والأصل في كلمة كتب، أنّها تفيدُ الوجوب والفرضيّة. قال (ص): "إنّ الله تعالى يُحِبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتقِنَهُ". فكما أنّ الله تعالى يحب الإحسان في العمل، وأوجَبَهُ، فهو يحبُّهُ، ويحبُّ صاحبهُ. بل إنّ القرآن الكريم لا يكتفي من المكلَّفين بعمل "الحسن" بل يدعوهم إلى عمل "الأحسن".
قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (الزّمر/ 55).
وقال تعالى أيضاً: (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 17-18).
والقرآن يأمر بجدال المخالفين بالتي هي أحسن (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (فصلت/ 34). وينهى عن التعامل مع اليتيم إلا بالتي هي أحسن (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (الأنعام/ 152). بل جعل القرآن الغاية من خلق الأرض وما عليها، وخَلقِ الموت والحياة يَبتلي بها المُكلَّفين. فقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 2).
فكأنّ التسابق بينهم ليس بين الحسن والسيء بل بين الحسن والأحسن. حين يتطلع المؤمن إلى الأحسن والأرفع.
قال (ص): "إذا سألتُمُ الله فاسألوه الفِردَوس، فإنّه أوسط الجنّة، وأعلى الجنّة – أُراهُ – فوقه عَرْشَ الرّحمن، ومنه تفجّرُ أنهارُ الجنّة".
فالأعمالُ المقبولة عند الله تعالى لا ينظر إلى صورتها ولا إلى عددها، بل إلى جوهرها وكيفيّتها. فكم من عملٍ مستوفٍ لظاهر الشكل ولكنه فاقدٌ للروح الذي يهبه الحياة. ولذا لا يعتدُّ به الدّين، ولا يضعُهُ في ميزان القبول.
لاحظوا الآيات الكريمة: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7).
ولاحظوا أحاديث رسول الله (ص) في الصلاة والصوم: "مَن لم يدعْ قولَ الزّورِ العمل به فليس لله حاجَةٌ في أن يَدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ".
وقوله (ص): "رُبَّ صائمٍ حَظُّهُ من صيامه الجُوعُ والعَطَش، ورُبَّ قائمٍ حَظُّهُ من قيامه السَّهَرُ".
إذاً الصيام ليس فقط إجاعة النفس، بل المقصودُ منه التقوى التي هي الهدفُ الرئيس من الصيام. وقيامُ الليلِ ليس المقصودُ منه القيامُ دون هدفٍ؛ بل المقصود منه أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فإذا لم يُؤَدِّ الصيامُ إلى الهدف المقصود منه، وإذا لم تُؤدِّ الصلاةُ إلى الهدف المقصود منها؛ فإنّ الصيام إجاعةُ نفسٍ فقط، والصلاةُ إتعابُ جسدٍ ليس إلا.. حتى الهجرة التي هي في ظاهرها تَرْكٌ للأهل والمال والولد.. فإنّ الرسول (ص) بيَّن أنّه ليس كلُّ من هاجر يُعتَبرُ مهاجراً حقّاً.. فنيّتُهُ وهجرتُهُ هي التي تُحدِّد إن كان مهاجراً أم لا: ".. فمن كانت هجرته إلى الله عزّ وجلّ فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وكما لا تُقاس الأعمالُ بكمِّها وحجمِها، كذلك لا تُقاس أعمارُ النّاس بطولها فقد يعمِّرُ الإنسان طويلاً ولكن لا بَرَكة في عُمره الطويل. وقد لا يطول عمر الإنسان ولكنّك تجدُ أنّ عمره حافلٌ بأعمال الخير وخير العمل.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق