• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٥ | ٢٧ شوال ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإرادة القويّة في مدرسة الصيام الحقيقي

أسرة البلاغ

الإرادة القويّة في مدرسة الصيام الحقيقي

إنّ من أعظم أهداف الإسلام تربية الإرادة، أيّ أن يملك الإنسان أن يقول: «نعم»، وأن يقول: «لا» عندما تدهمه شهوته، أو تدعوه عادته، أو يسخّره ظالم لخدمته وخدمة أغراضه. أن يكون حرّاً في حياته، فلا تستعبده رغبة، ولا تقهره شدّة، ولا يملك عليه مصيره إنسان ـ أيّاً كان ذلك الإنسان ـ أن يكون سيِّد نفسه، يملك أن يريد وأن لا يريد.

كان لابدّ للإسلام من سُبُل وطرائق عملية لتربية هذه الإرادة ورياضتها، وكان الصوم إحدى هذه الوسائل وإحدى هذه الطرائق، ففي الصوم حدٌّ من طغيان الجسم على الروح، والمادّية على الإنسانية، والعبودية على الحرّية، بأن يقول: «لا» عندما تدهمه شهوته إلى الأكل أو الشرب أو الاستمتاع باللذات، أو تدعوه عادته إلى ذلك. وهنا ندرك كيف يكون الصوم طريقاً للكفاح، فإنّ الكفاح في حياتنا إرادة للخير وانطلاق لتحقيق تلك الإرادة. وكان الصوم إلى جانب ذلك عبادة لله تعالى كبقية العبادات، يلتقي الإنسان فيها بربّه، فتتلاشى إرادته وتذوب إزاء إرادة الله سبحانه وتعالى. ولتحقّق في هذا التلاشي الذي هو مثال العبودية الحقّة لله، مبدأ قوّة الإنسان ونقطة الانطلاق لحرّيته، لأنّ الإخلاص لله في العبادة وإطاعته في ما يأمر به وينهى عنه، يمثّل في جوهره وحقيقته التحرّر من الخضوع لأيّة قوّة ـ مهما كانت ـ وراء قوّة الله. وهذا هو ما تعبّر عنه الآية الكريمة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة/ 4). وبذلك، كانت العبادة وكان الصوم، وسيلة عملية لتحرّر الإنسان من عبوديّته لأخيه الإنسان ومن عبوديّته لعاداته وشهواته.

عندما تقوى إرادتنا بالصوم والعبادة وحُسن التوجّه إلى الله، نعرف أكثر قيمة الصوم وأبعاده الساعية إلى تعزيز الإرادة المبصرة في خطِّ الله، لا الإرادة العمياء المنغلقة على الذات. لأنّ النفس بطبيعتها ميّالة إلى الكسل وإطلاق العنان للجوارح كي تتصرّف كيفما اتّفق، عبر النظرة الحرام إلى أعراض الناس، وعبر إعمال اللسان في نشر الفتنة والنميمة والعداوات، والخوض في حُرمات العباد. هنا يأتي دور الإرادة كأداة فعّالة يستعملها الإنسان في تطويع قوى نفسه بما ينسجم مع طاعة الله. فالصيام بأدقّ معانيه، هو سلوك وتدريب حيّ على تقوية جانب الإرادة في الإنسان، عندما تتطلَّب منه المواجهة في الحياة أن يكون صاحب خيار وإرادة.. فالإنسان مخلوق متميِّز فيه نوازع شهوانية، ولكن فيه نفحة من روح الله تدفعه إلى التعالي عن الاستغراق في الشهوات، وتقوية إرادته وبناء مناعتها ليسا مطلوبين في شهر الصوم فحسب، بل على مدار العام.

إذاً نستفيد من الصوم تقوية الإرادة، لنستعين بها في غير زمن الصوم عندما نواجه شتّى الضغوطات والإغراءات. فالصوم في تعزيزه للإرادة فينا في محصلة الأمر، هو تدريب على تقويم الأخلاق وتربّيتها على كلّ خير ومعنى وقيمة ترتفع بالنفس. فالصوم في معانيه العميقة، يهدف إلى تدريب إرادة الإنسان على كلِّ قيمةٍ ومعنى وخيرٍ، كي تعود النفس إلى أصالتها وفطرتها. فالإرادة التي لا تتحرّك في خطِّ الله، والتي تنغلق عن الإفادة من معنى الصوم والعبادات، هي إرادة عمياء، وإرادة مخنوقة عن الفعل، ومرتهنة لأهواء الذات وميولها، لا تفعل فعلها الإيجابي في المجتمع، ولا تمارس بالتالي دورها في الإصلاح والتغيير، ولا تملك القرار في مجابهة كلِّ الضغوط والتحدّيات المتنوّعة في الواقع.

إنّ الإرادة الراسخة تفرض أن يحاسب المرء نفسه، وأن يقوِّي مَلَكة التقوى لديه، بأن يعيش التقوى في القول، فلا يقول إلّا حقّاً، وأن يعيش التقوى في الفعل والممارسة، فلا يتحرّك إلّا في إحياء الحقّ وإقامته في بيته، ومع أقاربه وأرحامه، ومع مجتمعه، وأن يكون صاحب الإرادة المتحرّكة في إطفاء الباطل وإزهاقه، فلا يظلم ولا يعتدي على أحد، ولا يغتصب حقّ أحد، بل يحيا بالإرادة القويّة المتحلّية بحسّ المسؤولية، والمتحرّرة من كلّ القيود المادّية الزائفة والحسابات الضيِّقة.

ارسال التعليق

Top