تزكية النفس تعني: تنميتها بالفضائل والأخلاق الحسنة حتى يقوى فيها جانبها الإنساني وبعدها المعنوي.
- أهمية تزكية النفس:
إنّ أهمية التزكية وصلت إلى درجة أنّ الله تعالى جعلها هدفاً أساسياً لبعثة الأنبياء (ع).
وقد سأل: أين تكمن أهمية التزكية؟
والجواب: إنّ البناء الصحيح لشخصية الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة كل ذلك يرتبط بتزكية النفس، ومن هنا جاء الأنبياء (ع) من أجل مساعدة الناس على بناء أنفسهم وذلك بتعليمهم مكارم الأخلاق وفضائلها تربيتهم عليها، وإرشادهم إلى طرق كبح الميول والرغبات النفسية المخالفة للعقل والشرع.
قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران/ 164).
وعن رسول الله (ص): "عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ بعثني بها".
وقال (ص): "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
أما عن أثر التزكية يوم القيامة فيقول (ص): "ما يوضع في ميزان أمرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق".
وقال (ص): "أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق".
وقد تسأل: هل للإسلام هذا المستوى من الاهتمام بتزكية النفس وحسن الخُلق؟
والجواب: نعم، لقد أكّد الإسلام كثيراً على التزكية واهتم اهتماماً خاصّاً بالأخلاق، ولذلك نجد أن الآيات ذات المضمون الأخلاقي في القرآن الكريم أكثر من آيات الأحكام والتشريع، والقصص القرآنية ذات أهداف أخلاقية، والأحاديث الواردة عن المعصومين كثير منها يرتبط بالأخلاق.
جاء رجل إلى رسول الله (ص) من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال (ص): "حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول ما الدين؟ فقال (ص): "حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال (ص): "حُسن الخُلق"، ثم أتاه من ورائه فقال: ما الدين؟ فالتفت إليه فقال (ص): "أما تفقه؟! هو أن لا تغضب".
كما أنّ الثواب والعقاب اللَّذَينِ يترتبان على الأمور الأخلاقية ليسا بأقل من الثواب والعقاب اللذين يترتبان على بقية الأمور.
- معرفة النفس ومراتبها:
النفس والروح في معنى واحد، وهي ذات حقيقة واحدة إلا أن لها أبعاداً وجهات متعددة:
1- جهة رشد ونموٍ مع نمّوٍ الجسد.
2- جهة حركة وشهوة وغضب.. كما في بقية الحيوانات وهذا هو بعدما الحيواني.
3- جهة كمال لأنها تدرك وتفكر وتعقل، وهذا هو بعدها الإنساني وهو أسمى المراتب الإنسانية وأرقاها. وبذلك تكون للنفس مرتبتان: مرتبة دنيا ومرتبة عليا.
فالنفس بمرتبتها الدنيا هي حيوانية الميول، لها صفات وآثار الحيوان، وتميل كما يميل أي حيوان، وبمرتبتها العليا هي إنسانية ملكوتية طاهرة كاملة إلا أنها تحتاج لكمالها إلى التربية والتهذيب، فالإنسان يحتاج في المرتبة الدنيا إلى الماء والطعام والمسكن والهواء والزواج وغير ذلك فهو حيوان بالفعل، إلا أنّ النفس تقبل النمو والتربية وتميل إلى الكمال والصفات الكمالية من علم ومعرفة وإحسان وإيثار وعدالة وعفو واستقامة وصدق وأمانة وشجاعة وكرم وحبٍّ للخير ودفاع عن المظلومين وغير ذلك، وبهذا يكون كمالها وبذلك تصل إلى مرتبتها العليا.
وهنا لابدّ من التأكيد على الأمور التالية:
1- إنّ الذي يجعل الإنسان إنساناً ويميزه عن سائر الحيوانات هو بعده الإنساني وروحه الملكوتية المجردة، وهذا الجانب بالذات هو مورد التكريم الإلهي في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).
كما أن هذا الجانب هو الذي يشكل موضوعاً للتزكية والتربية وليس الجانب الحيواني المادي.
2- إنّ النصوص الواردة حول النفس على قسمين:
قسم يعتبر النفس جوهر ثميناً وأمراً ملكوتياً جاء من عالم الكمال، وأنّها منشأ كل الفضائل والقيم الإنسانية، ولذلك تجب تربيتها على الأخلاق والقيم، من قبيل قول أمير المؤمنين (ع): "إنّ النفس لجوهرة ثمينة من صانعها رفعها ومن ابتذلها وضعها".
وقسم يصف النفس بأنّها عدو وموجود شرير، وأنّها منشأ السيئات، فيجب لذلك محاربتها وتعنيفها، من قبيل قوله تعالى: "وما اُبرِىءُ نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي".
وقول النبي (ص): "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك".
ولا تعارض بين هاتين الطائفتين من النصوص لأن مورد المدح في الطائفة الأولى هو البعد الإنساني، والمرتبة العليا من النفس، بينما مورد الذم في الطائفة الثانية هو البعد الحيواني منها، فإذا قيل: أحفظ نفسك وربِّها فالمراد من ذلك المرتبة الإنسانية وإذا قيل: اقهرها فالمراد بذلك المرتبة الحيوانية، وذلك لأن كلا المرتبتين في حالة صراع وتجاذب دائمين، فالذات الحيوانية تسعى دائماً لإرضاء رغباتها وميولها وتحاول أن تقطع طريق الرقي والتكامل على النفس الإنسانية، وعلى العكس من ذلك فإنّ الذات الإنسانية تسعى دائماً للسيطرة على الرغبات والغرائز الحيوانية من أجل طي المراحل الرفيعة للكمالات الإنسانية حتى تنال مقام القرب الإلهي. فإذا تغلب البعد الإنسان في هذا الصراع ارتقى الإنسان في مدارج الكمال، ولو تغلَّب البعد الحيواني فيه لانحدر الإنسان في وادي الضلال والانحراف.
3- على ضوء ما تقدم يتضح أن قيمة الإنسان إنما هي ببعده الإنساني لا الحيواني، بل انّ البعد الحيواني هو من أجل خدمة البعد الإنساني، فصحيح أنّ الإنسان حيوان وله حاجات على هذا المستوى، لكن تلبية حاجات البعد الحيواني ليست هدفاً بذاتها، بل هي من أجل خدمة البعد الإنساني وتكميل حياته الإنسانية، فلو جعل الإنسان بعده الحيواني هدفاً ولم يكن همه في الحياة إلا الأكل والشرب واللباس وإرضاء شهواته وغرائزه الحيوانية لفقد إنسانيته ولسقط في درك الحيوانية وإن كان بصورة إنسان، وهذا ما عبَّر عنه القرآن في قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179).
4- إنّ الإنسان إذا التفت إلى حقيقته وبعده الإنساني وعرف نفسه حق المعرفة سيدرك أنّه أتى من عالم الكمال، عالم القدرة والعلم والمعرفة والرحمة والإحسان والخير والعدالة، وانّه لابدّ أن يسعى إلى الكمال وأن يكون هدفه هو الوصول إلى مقام القرب الإلهي حتى يتلائم مع ذلك العالم الذي أتى منه، والقيم الأخلاقية والإنسانية هي تلك الكمالات التي تحتاجها النفس لبلوغ الكمال، والإنسان يستطيع أن يدرك تلك القيم والفضائل بفطرته.
قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).
ومن هنا فقد جاء الأنبياء (ع) لإيقاظ الفطرة وتعريف الناس بحقيقتهم، وإرشادهم إلى طريق المعرفة والفضائل والمكارم الأخلاقية من أجل إعانتهم على طي مدارج الكمال ونيل مقام القرب الإلهي.
ولذلك أكد الإسلام على معرفة النفس كمقدمة للتزكية وأولى ذلك اهتماماً خاصاً. قال أمير المؤمنين (ع): "معرفة النفس أنفع المعارف".
وقال أيضاً: "مَن عرف نفسه جلّ أمره".
والمقصود من معرفة النفس معرفة هويتها الإنسانية بمعنى أن يعرف الإنسان مقامه الواقعي في عالم الخلقة، فيعلم أنّه ليس حيواناً وهم يخلق لأجل أن يعيش حياة حيوانية، بل هو موجود ملكتوتي خلق عاقلاً ومختاراً وحرا وان عليه أن ينمِّي بُعدهُ الإنساني لا الحيواني، ويلاحقه بالتزكية، ويربي فيه القيم والفضائل الأخلاقية حتى يصل إلى الكمال المنشود ويكون لائقاً بحمل الأمانة وخلافة الله على الأرض.
ارسال التعليق