• ٥ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٢٤ | ١ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التقوى ومفهوم العبادة

زهير الأعرجي

التقوى ومفهوم العبادة

◄يربط القرآن الكريم مفهوم التقوى بصميم القضايا التعبدية كالقتال، الوفاء بالعهد، الصبر، الحج، عدم أكل الربا، طلب الرزق الحلال، الصلاة وغيرها من الأمور الشرعية، حيث تختم أغلب الأوامر الشرعية القرآنية بتوجيه رباني صارم بتقوى الله..

فعندما يتناول القرآن الكريم موضوع النهي عن تناول الربا، يربطه بالدعوة إلى تقوى الله والثقة به: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 130)، وكذلك موضوع الإرث حيث أموال الأيتام الصغار، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يأمر الناس في الآية التالية بالترحّم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتِّقاء الله والقول السديد (أي الرأي السديد): (لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (النساء/ 9). وكذلك الوفاء بالعهد عندما ردّ القرآن على كلام أهل الكتاب بقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل أو نحن أولياء الله من دون النّاس، ونحن أبناء الله وأحباؤه: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76)، فجعل المقياس هو التقوى في الدين والوفاء بعهد الله وميثاقه والإيمان بما أنزل الله سبحانه، وليس لله قومٌ يحبهم من دون تقوى وإيمان وعمل صالح، فإنّ الخالق تبارك وتعالى لا يحب النّاس على حسب قومياتهم وأجناسهم كاليهود والعرب وغيرهم، بل إنّ الكرامة الإلهية لا تمنح إلّا للمتقين الذين لا يبرأون يذكرون الله في كل أعمالهم وأفعالهم..

والصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى يجمعها رابط، وهو أنّ الأمر القرآني جاء ليجمعها في آية كريمة واحدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 200)، فالصبر يراد به الصبر على الشدائد، والصبر في طاعة الله، والصبر عن معصيته، والمصابرة هي التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال ويشتدُّ الوصف ويتضاعف تأثيره، والمرابطة، هي الارتباط بين قوى الجماعة وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية، ثمّ تقوى الله حيث تجنب المعاصي ووقاية النفس ممّا يغضب الله سبحانه..

وكان العرب في الجاهلية يعتبرون المرأة عنصراً ساقطاً لا قيمة ولا كرامة له، وعندما جاء الإسلام نزلت مجاميع من الآيات القرآنية. في أمر النساء حول الزواج والتحريم والإرث وغير ذلك، وقد نزلت هذه الآيات حين كلَّم النّاس رسول الله (ص): (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) (النساء/ 127). فأُرجعت للمرأة حقوقها المهدورة في جميع مجالات الحياة.. (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) (النساء/ 131)، وفي هذه الآية الكريمة تأكيد في دعوة النّاس إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، وفي كلّ حال، وإنّ في تركه كفراً بنعمة الله.. وإن تكفروا فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض.. أي إن لم تحفظوا ما وصّينا به إيّاكم والذين من قبلكم وابتعدتم عن تقوى الله، فإنّه كفرٌ بنعمةِ الله، وهذا النوع من الكفر يصطلح عليه في الشرع الإسلامي بالكفر المستكن أو المستبطن.

وحتى في القصاص، وردَّ الاعتداء بالمثل أمر الإسلام بمراعاة صفة التقوى، حيث ذكر القرآن الكريم أنّ الحرمات قصاص، والحرمات هو ما يحرم هتكه، وهي حرمة الشهر الحرام، وحرمة الحرم، وحرمة المسجد الحرام، فإن اعتدى المشركون فعليكم الرد، فإنّكم إنما تجاهدون في سبيل الله (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 194). وقد هتك المشركون الشهر الحرام حين صدوا النبيّ (ص) وأصحابه عن الحج عام الحديبية ورموهم بالسهام والحجارة، فأجاز الله للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه.. ومراعاة التقوى هنا هو وعي المؤمنين بملازمة طريقة الاحتياط في رد الاعتداء حتى لا يطغى الإنسان وينحرف عن جادة الاعتدال، والله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين..

وفي الحج أمر الله سبحانه وتعالى بتقوى الله وذكِّر بأنّ يوم الحج له يوم مرادف وهو يوم الحشر والبعث، يوم يحشر الله الناس جميعاً فلا يغادر منهم أحداً (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة/ 203)، وصدر الآية يبين حكماً من أحكام الحج، والأيّام المعدودات هي أيّام التشريق 11-13 ذي الحجة. والتذكير بالتقوى وربطها بالحشر إلتفاتة إلى أنّ التقوى لا تتم، والمعصية لا تجتنب، إلّا مع ذكر يوم الجزاء، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص/ 26). وفي آية أخرى ربط القرآن الكريم بين العلم والعمل، ودعى إلى التقوى لئلّا يفقد المشتغِل بطاعة الله معنى العمل (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197)، وفي هذه الآية المباركة وجوه إشراقية جميلة فمعنى التزود أن أخذ الزاد يتم في فترات كالتزود بالطعام والتزود بالوقود وغيره، وعلى هذا فإنّ التقوى تحتاج إلى تزود دائمي من ذكر الله سبحانه، وربط الأعمال الحياتية كلّها بعنصر الخوف والخشية منه تعالى، وهذا الأمر لا يدركه إلّا أصحاب العقول السديدة الواعية ولذلك ختم الله سبحانه الآية الكريمة بقوله: واتقوني يا أولي الألباب، دلالة على أنّ مفهوم التقوى لا تدركه إلّا العقول السليمة والقلوب الواعية والنفوس المبصرة.. إنها دعوة فيها الكثير من الحنان والمودّة من الخالق عزّ وجلّ إلى الطبقة الواعية المفكِّرة من مخلوقاته التي تعيش على هذا الكوكب..

وهاجم القرآن الكريم إحدى العادات الجاهلية التي كان يستخدمها جماعة من العرب إذ كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقباً من ظهورها ودخلوا منه وكانوا يدعون هذه العادة نوعاً من البر.. فوضع القرآن الكريم أنّ البر هو التقوى، والتقوى هي الصفة التي تجتمع فيها جميع مراتب الإيمان ومقامات الكمال، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة/ 189). وتحدث القرآن الكريم عن الكافرين الذين كانوا يصدون عن المسجد الحرام ويمنعون المؤمنين من دخوله، فقال: (وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأنفال/ 34). أي الذي يثبت ويحقق لهم عدم تعذيب الله إياهم والحال أنهم يصدون عن المسجد الحرام، وليسوا هم الأولياء (وما كانوا أولياؤه) أي ليس لهم أن يلوا أمر البيت فيجيزوا ويمنعوا من شاؤوا لأنّ هذا المسجد مبني على تقوى الله فلا يلي أمره إلّا المتقون.. وهذا تفويض رباني بولاية البيت الحرام لهؤلاء المتقين الأبرار..

يتميز المنافق عن المؤمن المتقي، أنّ المنافق في زمن الرسول الأكرم (ص) كان يطلب الاستئذان في التخلف عن الجهاد في سبيل الله (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة/ 44-45). وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ الجهاد بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر. وهذا الإيمان هو الذي يفرز صفة التقوى، ولذلك وصف الله هؤلاء المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم بالمتقين، أما المنافقون فقد فقدوا صفة التقوى لأنّهم رفضوا الإيمان الذي يوقر في القلب، بل امتلأت قلوبهم بالشك والريبة، فهم يستأذنون الرسول (ص) بالتخلف عن الجهاد في سبيل الله متذرعين بمختلف الحجج والأعذار (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا) (الأحزاب/ 13).

وذكّر القرآن الكريم المؤمنين المقاتلين بأنّ صفة التقوى تقرّب الوعد الإلهي بالنصر والغلبة والظفر، وذكّرهم أيضاً بمراعاة التقوى في القتال بعدم قتل النساء والصبيان وحرق المدن وقطع الأشجار وغيرها، فقال تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 36).►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية/ ج2

ارسال التعليق

Top