◄لكي يستطيع المؤمن بالله وحده، أن يلتزم بما آمن به، وأن يلتزمه مختاراً، وأن يجتاز العقبة النفسية الداخلية، وهواجس الشهوة والهوى، في سبيل التنازل عن بعض ما في يده كثر أو قل – تحقيقاً للمنفعة العامة للمال.. كانت عبادة الصوم كتجربة نفسية، وكعبادة يتقرب بها إلى الله، يجب أن يمر بها المؤمن، ويستمر من وقت لآخر في مباشرتها. ولكي يستطيع المؤمن بالله وحده، أن يواجه كذلك مشقة الحرمان ويتغلب عليها، حتى لا يذل لفتنة التمتع الحسية وإغرائها، وعندئذ يقع تحت التبعية لها من جديد فيسيء إلى إيمانه بوحدة الألوهية، وينتقل إلى سلوك الشرك والتقلب في العبادة، من أجل هذه المتع.. كانت عبادة الصوم، هي: السبيل الواضح للمؤمن في الوقوف، في عزم وصبر وإصرار، أمام مشقة الحرمان المؤقت. وتحقيق المنفعة العامة للمال عن طريق الصوم ليس إذن عطفاً على من تعطى إياه، بقدر ما هي واجبة الأداء في صورة، لا يشق على النفس أداؤها، عندئذ. فأوجه المنفعة العامة ليست فحسب، رعاية العاجز عن السعي في الحياة، ولا تغطية حاجة من يقصر سعيه عن ضرورات معيشته. وإنما هي عديدة، بقدر ما تحتاجه المصلحة العامة للأُمّة. فالصوم الآن – وهو التجربة النفسية على الحرمان، كقربى إلى الله – يستهدف تحقيق: "القدرة" في الذات، وهي حقيقة نفسية، تصور حرية الإرادة الفردية في تحديد الموقف، وتعيين سبيل السلوك في الحياة، وبهذه القدرة الذاتية: بقي المؤمن بما يلتزم به، ويكون وفاؤه ليس عن إلزام خارجي له. هذه التجربة النفسية على الحرمان، هي الكفيلة بتحقيق "النظرة" الإسلامية في المادية، وفي المال معاً. فإذا كانت النظرة إلى المادية، على: أنها مصدر الفواحش، والمنكر، والبغي، والطغيان، والعبث والفساد، فالوقاية من الاستسلام إلى الاتجاه المادي في الحياة، أو تحدي هذا الاتجاه، إنما هو: في "استساغة" الحرمان استساغة نفسية، وفي عدم اعتبار: أنّه شقاء، بل اعتبار: أنّه ضرورة من ضرورات الحياة البشرية تقع، كما تقع أيّة ضرورة أخرى من ضروراتها. وإذا كانت النظرة إلى المال في الإسلام، على أنّ وظيفته اجتماعية، أي أنّ منفعته عامة للكلّ، فالسبيل إلى تيسير أمر هذه الوظيفة الاجتماعية للمال، وتحويل تلك النظرة إلى ما يشبه "العادة" في سهولة أدائها.. يكمن في تجربة الصوم كعبادة. فالإمساك عن المتع الحسية وقتئذ – أي وقت كون الصوم عبادة – ليس عن عجز في اقتنائها، إذ هي موجودة ومتوفرة، وإنما عن عبادة وقربى الله تعالى، عن اختيار ومشيئة. وما يسمى بـ"القناعة" ليس إمساكاً باختيار القانع عن متع حسية، وليس عن عجز عنها، بل هناك رغبة في رضاء الله، بدلاً عنها. وتجربة الصوم كعبادة إذا كانت تجربة على استساغة الحرمان، استساغة نفسية، من المتع الحسية وشهوات النفس فيها، وليس عن عجز وإنما عن قدرة، وإذا كانت ضرورة في حياة المؤمن كسبيل لتحويل النظرة الإسلامية إلى "واقع" في نفس الذات، هو "عادة" أو "إرادة" أو "طاقة" على الصبر والتحمل.. فإنّه – أي الصوم كعبادة – لابدّ أن يكلف بها من يقدر عليها، وأن تكون فترتها في استطاعة الإنسان، وأن تتخلل حياة الإنسان، كما يتطلب شأن العبادة التكرار، وكما تتطلب القوى النفسية وجود البواعث لحيويتها. وهنا نجد القرآن، يحدد في الآيات التالية ما تتطلبه هذه التجربة من أوضاع، كي تبقى حية ذات فعالية في حياة المؤمن بالله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة/ 183-184). (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185). (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (البقرة/ 185). (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 185). ... فأوّلاً: يحدد القرآن فرضية الصوم ووجوبه. وهو فريضة وواجب منذ رسالة الله على الأرض. وفرضيته ووجوبه إذن، جزء لا يتجزء من دين الله، هو الإسلام (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). وكما يحدد وجوبه، يوضح هدفه في قوله: (لَعَلَّكُم تَتَّقُون). وهو اتقاء فتنة المادية وإغرائها، والوقاية من الانسياق في تيار الاتجاه المادي في الحياة، الذي يوصل عادةً إلى الطغيان والفساد. ... وثانياً: يربط وجوب أدائه باستطاعة الإنسان البدنية. فإن شق على الإنسان في وضع معيّن له، كالسفر والمرض، فيرخص له بالفطر، على أن يعيد صوم الأيّام التي أفطر فيها في وقت آخر، لا يشق عليه أداؤه فيه: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ومع هذه الرخصة للمسافر والمريض، فالذي يستطيع منهما الصوم، يجب عليه أن يخرج من طعام اليوم ما يكفي فرداً عن كلّ يوم يفطر فيه، وإن زاد فيما يخرجه بحيث يكفي أكثر من فرد واحد فهو خير له يثاب عليه: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). ومع ذلك فصوم المسافر أو المريض – الذي يستطيع منهما الصوم – خير لأي منهما من الإفطار، والفدية: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ). لأنّه سينفع الصائم في شد عزيمته، وإبعاد التراخي في قوة احتمال الحرمان ومشقته: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إن كُنْتُم تَعْلَمُون). و"الطاقة" على الصوم التي تتحدث عنها الآية هنا: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) هي طاقة المسافر أو المريض – وليس القصد طاقة: من يظن منه عدم الطاقة – الشيخوخة مثلاً – أثناء سفره، أو أثناء مرضه. لأنّ عدم الصوم مع الطاقة للمسافر والمريض يكون رخصة له عندئذ. وإلا إذا كان أي من المسافر أو المريض، يضره الصوم يكون إفطاره عندئذ واجباً، وليس رخصة: يجوز له بسببها أن يفطر، كما يجوز له أن يمسك. ... وثالثاً: يحدد وقت أداء الصوم العبادة والفريضة، بشهر رمضان المبارك. وهو بهذا التحديد يهيئ جواً روحياً خاصاً، يزيد من فعالية الصوم في "التجربة" في سبيل احتمال الحرمان ومشقته. فشهر رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن بهدايته وببيانه للطريق المستقيم. وهو الطريق الذي يجنب من يسلكه انحرافات المادية وعبثها: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185). وأمّا ما جاء مرة أخرى في شأن المريض المسافر في قوله هنا: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).. فجاء ليوضح سبب الرخصة في عدم الصوم، أثناء المرض أو السفر، وهو دفع حرج المشقة، التي تبعد الصوم عن كونه "عبادة" أي قربى تنطوي على مسرة يتقرب بها الصائم إلى الله جلت قدرته: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (البقرة/ 185). وقد فهم بعض الذين يعالجون شؤون التفسير لكتاب الله: أنّ ما جاء في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة/ 184). هو نسخ لما ورد من قبل في الآية السابقة، في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) وهو في هذا التفسير يقطع صلة هذا القول: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) عن المريض والمسافر في الترخيص لهما بالفطر، مع استطاعتهما مباشرة الصوم، ويجعل هذا الحكم مستقلاً ومنشئاً وضعاً خاصاً في عبادة الصوم، وهو: أنّ القرآن في بداية تقرير عبادة الصوم جعل القادرين من المؤمنين مخيرين بين الصوم أو الفطر مع الفدية، وهي طعام المسكين. ثمّ نسخ هذا الحكم، بما جاء في الآية بعد ذلك، من قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فرفع التخيير عندئذ وأوجب الصوم وحده. ولكن ماذا يقول صاحب هذا التفسير في بدء النداء للمؤمنين هنا، في تقرير الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)؟. أليس هذا القول مساوياً لقول الله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟ من حيث الوجوب والتكليف. انّ الله سبحانه وتعالى أعاد أمر الوجوب هنا فقط بالنسبة للمدة. وهي الشهر. ولكن وجوبه كعبادة، تقرر بما جاء في النداء السابق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ). ... ورابعاً: يطلب من المؤمنين أن يشكروا الله جلت قدرته، ويكبروا ويهللوا بذكره وبعظمته، على فريضة الصوم كعبادة في حياة المؤمن، وعلى ما هداهم إليه في تجاربهم، ليكونوا خليقين بإنسانيتهم، وهي التجارب التي تتمثل في العبادات. فكلّ واحد منها وإن اتصلت بمجال معين في حياة الإنسان اتصالاً وثيقاً، فهي تتصل بالجانب الآخر بقسط له أثر فيه، وهي كلّها تصقل الإنسان بما تكونه من عادات لديه، وبما تنشئه من ملكات وقدرات خاصة، تساعد على تحويل "النظر" إلى "واقع" و"الفكر" إلى "تطبيق". ولولا هداية الله – ولذا يجب على المؤمنين به شكره – لما استطاع أن يخرج الناس من إغراء المتع الحسية والتبعية لها: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمّد/ 14). إنّ الإمساك – لأدء فريضة الصوم – وقت الرخاء، أي وقت اقتناء المتع الحسية واستطاعة الاستمتاع بها، يعيد للمؤمن طريق النجاح في الاختبار بالنعم التي يفيض بها الله عليه، والتي لها إغراء وبريق يخدع ويفتن: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7). فالصائم عن قدرة – وليس عن عجز – هو الذي لا يدع نفسه لخداع ما على الأرض من زينة، ويتورط في بريقها، وبذلك ينحرف في مسلكه، ويتخذ من تلك النعم: طريقاً للظلم والطغيان، والفساد، بسبب تبعيته لما أُترف فيه حينئذ. وذلك هو الطريق لاجتياز الابتلاء، بتفاوت المستويات في الاقتناء واختلاف درجات الثراء ومنازل الغنى بين الناس. فكما جعل الله ما على الأرض زينة لاختبار أثرها على النفوس، كذلك جعل تفاوت الغنى والمال امتحاناً للنفوس الضعيفة والقوية، والصادقة في إيمانها المترددة فيه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 165).. أي أنّه سريع العقاب لمن جنح بسبب ما آتاه الله من مال ورزق، وأصر على غيه فيه. وهو غفور رحيم، لمن خُدع به وقتاً ما، ثمّ تاب إلى الله وسلك الطريق السوي في الاستمتاع به من جهة، وفي تحقيق المنفعة العامة لوظيفة المال الاجتماعية من جهة أخرى. وكما يكون الابتلاء باقتناء النعم، وبالتفاوت في الثروات. يكون بالحرمان أو بالأزمات في ذلك: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35). فالحياة عرضة للكثير والقليل، وللرخاء والضيق. والرخاء أو الكثير إذا كان للإنسان ولنشاطه في السعي أثر فيه، فإنّ القليل أو الضيق قد يكون نتيجة لعوامل بعيدة كلّ البعد عن إرادة الإنسان وقدرته: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157). والمؤمن الذي يتقرب إلى الله بعبادة الصوم وبإمساكه عن المتع، رغم وجودها بين يديه، وهو ذلك الذي تمر عليه الأزمات والشدائد بسبب نقص في الأموال، والأنفس، والثمرات دون أن تحدث أثراً سلبياً في نفسه؛ حتى يهتز ويستسلم لشهوة النفس، ويسأل ويلح في السؤال لقضاء ما تشتهيه، بطريق أو بآخر. وهو نفسه الذي تدرب على الصبر والاحتمال. فإذا ما كانت الأزمة في الأنفس فإنّه ينقل صبره واحتماله إلى مجال فقدها، دون أن يضطرب إيمانه بالله وباليوم الآخر، فيميل إلى الاتجاه المادي في الحياة فينكر ربه وآخرته. لأنّ الاحتمال قدرة وطاقة، أينما تكون الأزمة، تواجه بها. ولذا هو من أصحاب الهداية، وممن رضي عنهم ربهم برحمته وتوفيقه، فتمرس على الصبر، بتدريب نفسه على الإمساك في الرخاء والشدة على السواء. وربما قبل الابتلاء بالدنيا ومتعها، اقتناء وحرماناً، يواجه المؤمن بالله الابتلاء في الإيمان نفسه.. يواجه الابتلاء في مدى صدق إيمانه وإخلاصه فيه.. يواجه التعرض بسبب الإيمان، للقتال مرّة، ولايذاء الأعداء بالقول، والتآمر مرة أخرى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (آل عمران/ 186). إنّ المؤمنين سيختبرون في أموالهم بإنفاقها في الجهاد في سبيل الله، وسيختبرون في أنفسهم بالمواجهة في قتال الأعداء، وسيختبرون بالتعرض للسخرية والإهانة والتشهير وترويج الأكاذيب. سيختبرون في كلّ ذلك من أجل الإيمان. وما لم يكن لهم صبر وتحمل، وما لم يدربوا على حماية النفس من التأثر بالدنيا في متاعها والحرمان منها على السواء، لا يكون لهم عزم، ولا تكون لهم إرادة قوة نفسية خاصة، يتقون بها ما يوضعون فيه من أحوال، من شأنها أن تهز الإيمان وتضعفه. ولن تكون هذه المعاني النفسية، وتجعلها في أعماق الذات "واقعاً" يواجه الابتلاء، إلا عبادة الصوم.. إلا الإمساك عن نية، وإرادة ورغبة.. إلا الإمساك في تحدّ لشهوة النفس، وفي تحدّ لمتع الحياة المتوفرة، وفي تحدّ للإغراء ولبريق هذه المتع الحسية.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق