• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العمل التطوعي وتنمية الإبداع

العمل التطوعي وتنمية الإبداع

تكمن أهمية الإبداع كما يعبر عنها العالم هارول أندرسون «في كونه عملية إنتاج تشهد كلّ لحظة من لحظاتها ولادة جوهرة ذات قيمة آنية، ليس ذلك فحسب بل تكمن الأهمية في كون الإبداع ضرورة من ضرورات الحياة»؛ فللإبداع دور أساسي في خلق نسيج من الأفكار الطموحة الرائدة التي تسعى لتحقيق نتائج تعود بالنفع على الفرد والمجتمع.

يحتوي ميدان العمل التطوعي على الكثير من التحديات والقضايا الإنسانية التي تتطلب منا تفعيل طاقاتنا الإبداعية الكامنة؛ حيث يُعرف العمل التطوعي على أنّه نشاط اجتماعي أنساني أخلاقي قائم على ممارسات الإيجابية وتسعى لإيجاد حلول لعدد من القضايا الاجتماعية والتحديات الإنسانية المعززة لمهارات التفكير الإبداعي.

وُلدت فكرة ناسا بالعربي انطلاقاً من محبة الفيزياء بشكلٍ خاص وإيماناً بأهمية تطور مجتمعاتنا بشكلٍ عام، وهي كمبادرة تطوعية تعمل بشكلٍ دؤوب على نشر المقالات العلمية من مصادرها الأولية والمرموقة عالمياً. وتُوفر للقارئ مجالاً متنوعاً من المقالات بدءاً بتلك عالية التخصص وانتهاءً بمقالاتٍ ذات طابعٍ توعويٍ وتعليمي. اجتمع في هذه المبادرة أشخاص من كافة الخلفيات الثقافية والقومية وكلهم يتطلعون إلى هدفٍ وحيد وهو خدمة المجتمع وزيادة المحتوى الرقمي العلمي العربي، أملاً بانتقال مجتمعاتنا في يومٍ ما، قد لا يكون بعيداً، من ترجمة علوم العصر الراهن إلى صناعة علوم المستقبل.

عندما تجد نفسك أمام عمل تطوعي ودؤوب في مجال ترجمة العلوم امتد على مدار أكثر من عامين، فأنت حتماً ستواجه كماً هائلاً من المقالات المترجمة التي يعتمد ترتيبها وأرشفتها وحفظها على تطور فهمك للعمل التطوعي وآلياته، فكيف ستكون الحال إن بدأ الأمر من الصفر ودون أي مساعدة أو عون! من المؤكد أنّه بعد مضي عامين، ستكون المقالات والأعمال المترجمة قد تراكمت بشكلٍ فوضوي ومزعج جداً، فما بالك لو أردت فجأة أن تُحول هذه الأعمال إلى موقعٍ إلكتروني. عند هذه النقطة بالذات، لست بحاجة إلى عددٍ هائلٍ من الناس، بقدر حاجتك إلى عددٍ قليلٍ من المتطوعين «الأسطورة». لا يُمكن إيجاد هذا النوع من المتطوعين إلّا في فئة محددة جداً من الناس، وهي فئة مدفوعةٌ بالضرورة بإيمانها العميق بالرسالة التي تطوعت لخدمتها وأيضاً بمحبتها لما تقوم به.

هذا النوع من المتطوعين لا يؤمن بالظروف ولا يتحجج بوجود ضغوط العمل، فكل ما يدفعه هو حبّه وإيمانه بالرسالة التي يؤديها. إنّهم ببساطة أشخاص كلما أنجزوا عملهم على أكمل وجه، كلما شعروا بضرورة القيام بالمزيد. وبفضل هؤلاء الأشخاص «الأسطورة»، تمكنّ العاملين في ناسا بالعربي من وضع أقدامهم على بداية طريق طويل لا يُرشد فيه إلّا العلم وزراعة ثقافة العمل التطوعي في كلّ خطوة، إيماناً بأهميته التي تتجاوز أهمية كلّ أنواع العمل الأخرى.

تلعب الأعمال الإبداعية وخصوصاً الأدبية والفنية من قصص وروايات، ومسرحيات مكتوبة وممثلة، وأفلام ومسلسلات، وقصائد وأناشيد، وألعاب.. دوراً مهما كوسائل تربوية وتعليمية وترويجية يمكن استثمارها في غرس قيم العمل الخيري والتطوعي والإنساني ونشر ثقافته في أوساط الأطفال والناشئة والشباب بدءاً من مراحل رياض الأطفال وحتى الجامعة، مما ينتظر أن يكون له أثر مهم في تحويل هذه القيم إلى أفعال وسلوكيات وممارسات عملية للمستهدفين، مع مراعاة مستويات العرض والتقديم تبعاً للمراحل العمرية.

ولغرس منظومة القيم الخيرية والتطوعية أهمية خاصة فهي تضمن الكشف عن الطاقات والإمكانات والملكات الكامنة لدى الأفراد والمجموعات واستثمارها في توثيق الترابط الاجتماعي والإسهام في مجهودات تنمية المجتمعات، وتعزيز التفكير الإيجابي لدى الشباب الذي يتوفر له وقت فراع أكثر من غيره، فضلاً عن فوائد إيمانية وحياتية تعود على الأفراد كترقيق القلوب، وتقدير النعم حقّ قدرها، وحصول البركة في الحياة والأهل والمال والصحة والعافية، والأجر من الله في الآخرة.

يحتاج هذا المشروع الإبداعي لعدد من التجهيزات لعلّ أهمها:

- حصر قيم العمل الإنساني الرئيسية والمتفرعة عنها مع ما ترتكز إليه من مرجعية (الآيات والأحاديث..)، مثل: التكافل الاجتماعي، إغاثة الملهوف، الإنفاق في سبيل الله، التعاون على البرّ، الإيثار، الرفق بالحيوان، خدمة المجتمع وبخاصة أصحاب الحاجات فيه..

- حصر الأعمال والأنشطة التي يمكن أن تترجم هذه القيم إلى أفعال وسلوكيات عملية تنفيذاً أو دعماً، وهي كثيرة جداً ومنها: تقديم المساعدات المالية والعينية للفقراء والمساكين، إطعام الطعام، إماطة الأذى عن الطريق، كفالة الأيتام وطلاب العلم، وتفريج كُرَب المكروبين، والكلمة الطيبة، وإصلاح ذات البين، وإعانة الشباب على الزواج، وسقيا الماء، والدلالة على الخير، وبناء المساجد ودور العلم والتعليم، والتبسم في وجوه الآخرين، وقضاء الدين عن الغارمين، والمحافظة على البيئة..

- البحث عن القصص المتوفرة في القرآن والأحاديث، وسير الصالحين والخيرين في تراثنا العربي الإسلامي، والتراث الإنساني الغابر والمعاصر، والفعاليات التي تقدم نماذج مشرقة في عمل الخير والتطوع وخدمة الناس وتنمية المجتمعات، وإعادة صياغتها وتقديمها بأسلوب مبسط، ووضعها في قوالب مشوقة جذابة تناسب الشرائح المستهدفة، وتراعي البيئة العربية والإسلامية وتأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الثقافية.

- تقديم سير الشخصيات التي عرفت بالبذل والعطاء، وكانت لها بصماتها في العمل الخيري وإقامة وإنجاز المشاريع والخدمات المتميزة في هذا الجانب ماضياً وحاضراًـ

- إنتاج قصص وأعمال معاصرة، يترك فيها المجال لإبداع المبدعين من كتّاب القصص والروايات والمسرحيات وسير المتميزين ومذكراتهم في الجانب التطوعي، بما في ذلك تصميم أبطال لهذه الأعمال، إذ غالبا ما تكون هذه الشخصيات أكثر رسوخاً في ذاكرة الأطفال والناشئة، باعتبارها تمثل قدوة لهم.

وقد جرى التركيز على القصص والسير لأنّها أساس أغلب الأعمال الإبداعية الأخرى، والتي يمكن بعد ذلك تحويلها لأعمال مطبوعة أو أعمال درامية وسينمائية مصورة، أو برامج تليفزيونية، أو أفلام كرتون، أو أعمال ممثلة على خشبات المسارح أو غيرها.

ويمكن التعاون مع دور نشر ومؤسسات إنتاج لإصدار مثل هذه المخرجات بصورة احترافية، لتسويقها ونشرها في وسائل الإعلام المختلقة بحيث تغطي تكاليف هذه الأعمال كحد أدنى.

بعض النماذج القصصية قدّم للأطفال فعلاً، ولكن المشكلة أن كثيراً من الكنوز في تراثنا العربي والإسلامي والإنساني لم يمط اللثام عنها حتى الآن، ويحتاج إلى بحث وتنقيب وحصر أولاً، وتقديمه للأطفال بقوالب إبداعية مختلفة ثانياً، فضلاً عن إنتاج أعمال معاصرة في هذه الجوانب وهي قليلة، وكلّ ما سبق يحتاج لجهود مؤسسية، ينتظمها مشروع - لا يكون ذا أهداف ربحية - بكل ما يستلزمه من كوادر متفرغة ومتعاونة وميزانية ومؤسسات راعية وداعمة، وجهات للتسويق والتوزيع، والشراكات مع المؤسسات التربوية والتعليمية والشبابية والتطوعية والرياضية.

ما ينبغي أن يكون أكثر أهمية لدى المؤسسات الخيرية والإنسانية في عالمنا العربي والإسلامي من تسويق مشروعاتها الخيرية كبناء مدرسة أو مستشفى أو مسجد هو غرس قيم العمل الخيري لدى الأطفال والناشئة منذ نعومة الأظفار، لأنّ من شبّ على شيء شاب عليه، أو إشاعة ثقافة العمل الخيري ببعدها الحضاري المستمد من ثقافتنا الإسلامية لدى الشباب الذين هم «دينامو» أي عمل تطوعي، وصولاّ إلى تجذير الخيرية لدى هذه الشرائح.

ارسال التعليق

Top