• ٥ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٢٤ | ١ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حسناتُ الابتلاء وإيجابياتُه

حسناتُ الابتلاء وإيجابياتُه

بالاختبارات الإلهيّة تظهر معادنُ الناس على حقيقتها، فلا يخدعنّ أحدُنا غيره، ولا ينخدع به غيرُه، فهو اختبار ذو أثر إنساني في المحصّلة، أي إنّ مردوداته تصبّ في مصلحة الناس لئلّا تنطلي عليهم العُملة المزيَّفة من العُملة الحقيقية، وإلّا فالله المطّلع على السرائر، الذي لا تخفى عليه خافية، ليس بحاجة ذاتية لأيّ اختبار إنساني.

يقول تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 2-3). وفي الخبر عن رسول الله (ص): «لولا ثلاث في ابن آدم ما طأطأ رأسَه شيء: (المرض) و(الموت) و(الفقر) وكلّهم فيه، وإنّه لمعهم لوثّاب»، أي مع كثرة طالبيه الأشدّاء، إلّا أنّه مغرورٌ بنفسه، مُعجبٌ بقوّته.

وعلى ذلك يمكننا أن نرصد أهمّية الابتلاء في حياتنا ضمن النقاط الآتية:

1- كسر رتابة الحياة، إذ لو صيغت الحياة على نمط واحد لسأم الإنسان من روتينها المُمل، والابتلاءاتُ خيرُ مَن يُجدِّد شبابَ الحياة، لأنّها ترسم وتُلوِّن الوجه الآخر للحياة، فلا يُقدِّر النِّعمةَ حقَّ قدرها مَن يعيش النعيم الدائم، وإنّما تحلو الحياة لا بحلاواتها فقط، بل بمراراتها أيضاً، وبنجاحاتها وفشلها، وانتصاراتها وهزائمها، ولو كانت خلواً من الابتلاء لم تكن هذه هي الحياة التي نعرفها.

طُبعت على كدرٍ وأنتَ تُريدها

صفواً من الأقذارِ والأكدارِ

ومُكلِّفُ الأيّامِ ضدّ طباعِها

مُتطلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ!

2- إتاحة الفرصة للتمييز والغربلة بين الهمم العالية والأُخرى الواطئة، وبين أنصار الحقِّ من أنصار الباطل، والمعادن النفيسة من المعادن الخسيسة.. وكما أنّ الذَّهبَ يُختبر بالنار ليصفو من شوائبه، فإنّ ذَهبَ الإنسان لا يتجلّى نقياً صافياً إلّا في أوقات الشدّة، وأيّام المحنة، التي من ألطافها أنّها تفرز الدخيل من الأصيل، والحقيقي من المزيَّف.

3- لو لم يكن هناك شدائد وابتلاءات، لطال أمد التميُّع والنعومة والترف والبطر في حياة الإنسان، ولما كان مستعداً لمواجهة المصاعب والتحدّيات، بل لقسى قلبه وتبلّدت مشاعره، ذلك أنّ زمان الابتلاء بالوباء أم غير الوباء، يجعل الإنسان أكثر رهافة وإنسانية وأخلاقية في التعاطي مع أخيه الإنسان، ولكلِّ قاعدة بالطبع استثناءات. ولهذا يُحدِّثنا القرآن عن حالات التطرُّف الإنساني، بقوله: (كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6)، وقوله: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد/ 16).

4- البلايا مُقرِّبات إلى ساحة الله تعالى بعد هجرانها والابتعاد عنها والانغماس في اللهوات والشهوات، وخيرُ دليل على ذلك ما نحنُ فيه اليوم من عودة إلى ظلال الرحمة نتفيّؤها، وإلى التعلُّق بأسباب القوّة المطلقة ننشدّ إليها، بعد أن تأكَّد لنا أنّ لا قوّةَ إلّا بالله، ولا ثقة إلّا به، وأنّه مالك الشفاء حينما يعزّ الشفاء، وأنّه المنجي حيث لا نجاة إلّا به، لا في عهد كورونا وحسب، بل في كلّ ضائقة تحدق بالإنسان، في البرِّ كان، أم في البحر، أم في الجو. قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (الأنعام/ 42).

5- لولا الابتلاءات لزهد الإنسان بدار النعيم الأبدية، ولركن إلى دُنياه بكلِّ ما فيها من عيوب ومنغِّصات ونقائص.. أمّا إذا كان يعلم أنّ الدُّنيا دار ممر لا دار مقر، وأنّه سينتقل من دار خَرِبة إلى دار عامرة، وأنّه سينجو من كلّ الآفات والمكدِّرات والهموم والغموم التي تضجّ بها الدُّنيا، فإنّه يُرحِّب بالابتلاء ماحياً لسيِّئاته، رافعاً لدرجاته، منقياً له من الشوائب والرواسب التي علقت به في رحلته الدُّنيوية، فَرِحاً بانتقاله من دار الشرور إلى دار السرور. يقول جلّ جلاله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة/ 61).

6- الابتلاءات، على عكس ما يتصوَّر بعضنا من أنّها مُكبِّلات أو مُثبِّطات، هي من أنواع المُنشِّطات التي نحتاجها لتذويب الدهون النفسية، والترهُّل الروحي، والخمول العقلي، والكسل البدني.. لقد لاحظ دارسو تاريخ الحضارات أنّ الحروب كانت أسباباً مهمّة للاختراعات والاكتشافات، الطبية والتقنية والعلمية، وأنّها وإن رافقتها خسائر بالأرواح والممتلكات؛ لكنّها مُحرِّك من مُحرِّكات الإبداع.. وفي الإجمال، فإنّ الشجرة البرّية - كما ورد عن الإمام عليّ (ع) -: «أصلبُ عوداً، والروائع الخضرةَ أرقُّ جُلُوداً، والنباتات العِذيَةَ أقوى وَقُوداً، وأبطَأ خُمُوداً».

يُقال إنّ (الفواكه) تتباهى على (السُّكّر) قائلةً: لقد تجرَّعنا كثيراً من المرارة حتى وصلنا إلى منزلة الحلاوة، فماذا تعرف أنت عن لذّة الحلاوة ولم تعانِ مشقّةَ المرارةِ قطّ؟!

إنّ الأُمم التي لا تنكسر ولا تُهزم بسهولة، هي تلك التي عاشت المعاناة والمصاعب في طريق نهضتها، وعَبَّدت طريقها الوعر بالآلام والمصاعب والدموع والدماء، وعلى عكسها الأُمم التي استغرقت في الميوعة والترف والليونة والبذخ والبطر.

7- ولأنّ الحسّ الإنساني، كالمعدن يحتاج إلى صقل بين حين وآخر، وإلّا ران عليه الصدأ، وتبلَّد ولم يعد يعيش نزعته الإنسانية والوجدانية في مشاطرة الآخر همومه ومعاناته، كنّا بحاجة دائمة إلى الإنسان الغيور الذي تأخذه الرأفة بالآخر، سواءً أكان أخاً له في الدِّين أم نظيراً له في الخلق.

وفترات المحن والابتلاءات تتحوَّل - في الغالب - إلى ورشات نشطة لبناء وصناعة الإنسان الخشن القادر على مواجهة التحدّيات، ولإعادة تدوير الإنسان الخامل الهزيل، ولتركيبه من جديد بحيث يكون مؤهلاً لإحداث نهضة حضارية جديدة.

يقول (جلال الدين الرومي) في (كتابٌ فيه ما فيه): «ما لم يُظهر الألمُ داخل الإنسان (الشغفَ) و(العشق) لن يقصد إليهما، ولو لم تظهر آلامُ الوضع لـ(مريم) لما قصدت الشجرةَ المباركة (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم/23).. فألجأها الألمُ اليه، كانت الشجرة جافّةً فغدت مثمرة.. الجسمُ مثلُ مريم، وكلٌّ منّا لديه (عيسى) في داخله، فإذا حدث لنا الألمُ وُلِد (عيسانا)!!

الروحُ في الداخل في فاقة، والجسدُ في الخارج في ثراء، والآن فتداوَ، فإنّ مسيحَك على الأرض، إذ عندما يعود سيتبدَّد كلُّ أمل بعلاجك» !!

إنّ خلاصة ما يمكن قوله بشأن الشرور في الحياة، أنّ إرادة الشرّ تكون قبيحة إذا أُريد الشرّ لذاته.. أمّا إذا أُريد لخير فلا يكون قبيحاً (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (البقرة/ 179).. فالقصاص يمكن أن يُقال بأنّه شرّ لأنّه هدمٌ لبنيان الله؛ ولكنّه شرّ جزئيّ، وصيانة الناس عن القتل خيرٌ كليّ، فإرادة الشرّ الجزئي طلباً للخير الكلّي ليست قبيحة! هذا زبدة ما يراه العُرفاء!

ارسال التعليق

Top