• ٥ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٢٤ | ١ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حلوى الحب تغيّر الحياة الاجتماعية في المجتمعات العربية

حلوى الحب تغيّر الحياة الاجتماعية في المجتمعات العربية

في‭ ‬خضم‭ ‬حياة‭ ‬تزداد‭ ‬تعقيداً‭ ‬وتنجح‭ ‬فيها‭ ‬الملهيات‭ ‬والشاشات‭ ‬بتشتيت‭ ‬الحواس‭ ‬تحتاج‭ ‬للركون‭ ‬إلى‭ ‬زاوية‭ ‬هادئة‭ ‬تجالس‭ ‬فيها‭ ‬ذاتك...

، وتشرب قهوتك مصغياً للعديد من التساؤلات المغمّسة بالشكوى حول تغير الحياة الاجتماعية بصورة ضاغطة، وافتقادها الكثير من الملامح والسمات التي نشأنا عليها في المجتمعات العربية والتي كنا نباهي بها الدّنيا، معتزّين بما لدينا من ترابط أسري وتكافل اجتماعي في الأفراح والأتراح مقارنةً بتلك الحياة الاجتماعية الجافة واختلاف مفهوم العائلة في المجتمعات الغربية.

 

تغير طارئ

هل ثمة دلائل جلية على التغير الطارئ على طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمعات العربية؟ وهل بدأت تجفّ منابعها وتتقلص فرص ديمومتها ليشكّل هذا الواقع ظاهرةً تستحقّ الالتفات إليها والبحث عن أسبابها ومسبباتها.

ما الأسباب التي تقف وراء هذه التغيرات التي تحدث في فترة وجيزة؟ أهي طبيعة عصر السرعة وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في جفاف منابع الصدق والديمومة والفاعلية في العلاقات الاجتماعية؛ فهي على عكس اسمها أسهمت في المزيد من التباعد الاجتماعيّ وذلك بتراكم الأخبار السعيدة والحزينة، الحقيقية منها والمزيفة في لقاءات وذاكرة افتراضية هشّة، وبالمقابل تتسبّب في انشغال المحيطين بنا بكلّ شيء وبلا شيء، وفي تقليص فرص التلاقي الحقيقي الروحي والفكري حتى بين أفراد العائلة الواحدة ممّن يعيشون تحت سقف واحد صغير لكن بفضاءات افتراضية شاسعة، فحين تمد يداً تبحث عن سلام تطلبه روحك العطشى مثل صحراء لا تجد غير برق خلّب في سماء الشّاشات القريبة البعيدة.

وما ساهم في جفاف الحياة الاجتماعية وتقوقع الفرد المعاصر حول ذاته أزمنة الحظر الذي أتت به جائحة «كورونا» وفرضته فرضاً عقلانياً وأخلاقياً لحماية أنفسنا والآخرين حين دخلت حياتنا على أجنحة الخوف، ما جعل إمكانية العزلة والتقوقع حول الذات وملازمة البيت أمراً مجرّباً وممكناً فزادت المسافات بين الناس، وجفّت منابع العديد من العلاقات التي كانت تصبّ في الحياة الاجتماعية للأفراد وتغذّيها بالحياة والتواصل وجسور التلاقي والمحبة. ورغم التقارب الافتراضي الخادع والخالي في معظمه من الحميمية والصدق والديمومة، تحوّلت حياة الكثيرين منا، في محاولة لكسر جدار العزلة الإجبارية، إلى تسلّق يومي على الشبكة العنكبوتية، ومحاولة التواصل مع الآخرين عبر ثقوب الجدار الافتراضي.

 لا ننكر هنا دور الشّاشات المهم والفاعل في أزمنة الحظر في مجال التعلّم عن بعد، والعمل من البيت وتسيير أمور الحياة؛ فقد شكّل الفضاء الافتراضي وقتها خياراً ضرورياً ونافذة في جدار العزلة المفروضة، لكن ذلك خلّف آثاراً عميقة على الحياة الاجتماعية، وانتصب مثل جدار جديد أضيف إلى بيوتنا وللتركيبة النفسية لنا ولأطفالنا، وغدا ركناً أثيراً في البرنامج اليومي للحياة بحيث تعدى ضرورته الوقتية الملحَّة إلى حالة من الديمومة غير الصحية.

 تحتاج الآثار الاجتماعية والنفسية العميقة التي خلّفتها الجائحة إلى دراسات معمّقة، قد لا يشعر المريض بالأعراض خاصة حين يكون الأمر جماعيًا، فالفرد متجانس مثل خيط في نسيج المجتمع الكبير .لكن الأمر يحتاج إلى الاعتراف بوجود مشكلة ومن ثم البحث عن التشخيص واقتراح حلول ناجعة ومسكنات كي لا يتفاقم الألم ويخلّف ندوبًا نفسية قد يكون علاجها أكثر صعوبة.

تصاعد النظرة الذاتية

 يمكن بنظرة متفحصة ملاحظة تصاعد النظرة الذاتية بصورة مَرضية، وتوالد تلك الأسئلة الشائكة حول دور العلاقات الاجتماعية وطبيعة تمحورها في المصلحة بشكل صريح، الأخذ والعطاء، الفائدة والاستفادة، الخدمة والثمن حتى بين المقرّبين والقريبين.

 من المؤلم حقاً أن تصبح العلاقات مبنية على الأخذ والعطاء بميزان دقيق موضوع في الواجهة وظاهر للعيان كأنّنا في محال تجارية لبيع العواطف، تكاد الابتسامة أو النصيحة تتحول انطلاقًا من مبدأ الربح والخسارة إلى بضاعة مسعّرة بثمن يتفاوت وفق طبيعة العلاقة، ولم تعد مسألة جدلية أن يسعى الفرد ليكون غالباً لا مغلوباً مستفيداً أكثر ممّا هو مفيد، وأن ينظر إلى هذه المسألة باعتبارها مهارة حياتية وذكاءً اجتماعياً!

 رغم طغيان علاقة المصلحة وخروج الكثير من العلاقات من إطار المحبة لتصبح بضاعة عليها ختم لانتهاء الصلاحية كأنّها علبة دواء أو منتج يعرض في السوق ويصفّ على رفوف المحال التجارية، لا نزال نجد بيننا الطيبين الأنقياء ممّن لم يجرفهم التيار، كأنّما تعلّقوا بصخرة على شكل قلب، منسيين بيننا، متناسين الخيبات، ورافضين التنازل عن قيم المحبة غير المشروطة والعطاء النبيل والتعاطف الإنساني مع الآخر، تمرّ عليهم الظروف وتقلبات الحياة بصبر وصمت لا تغير معدنهم ولا تؤثر في طبيعة تعاطيهم النقي مع الآخرين، اعتدنا عطاءهم وتحمّلهم لنا وتقبلّهم خيبات كثيرة قد لا نلحظ وجودها كون الكثير منا لم يعد يلتفت إلا لخيباته ومصلحته فقط .

 من المؤسف أن يتحوّل وجود الطيبين بيننا من فرصة للتعافي وهدية استثنائية تقدّمها لنا الحياة، إلى اعتياد على وجودهم والاكتفاء باستغلالهم ونعتهم بالطيبة الزائدة التي صارت في زمننا مرادفًا لـ«الهبل»، وأن نعتبر عطاءهم واجباً وأمراً مفروغاً منه .مثل هؤلاء مَن كان منهم أخاً أو صديقاً بات عملة نادرة في زمن القحط العاطفي والتقوقع حول الذات وبناء درع لكبح التعاطف الإنساني مع الآخر، يستحقون الالتفات إليهم، ليس بالنظر، بل بالقلب ومبادلة أزاهير عطائهم بعطر التقدير قبل أن تكسر طيبتهم وفطرتهم النقية سهام الجحود والإهمال.

 العطاء أمر محمود، أمّا التعوّد على الأخذ واعتباره مهارة فهو آفة اجتماعية؛ حين يتحول العطاء إلى صفة والأخذ إلى عادة، قد يعطي الإنسان من وقته وعاطفته وماله وهو في أمس الحاجة لمن يروي عطشه بكلمة شك، أو يهديه وردة امتنان وبسمة لا تكلّف شيئاً، علينا تذكر ذلك وعدم نسيانه في خضم الحياة، فقد يكون الجدار الذي تستند إليه آيلاً للسقوط ويحتاجك أيضاً لتسنده!

يحدث أحياناً أن نطلب حلوى الحب ممّن يأكلون العلقم وهم يبتسمون.

ارسال التعليق

Top