أسرة
- أوّلاً: البيع:
قال تعالى: (أحَلَّ اللهُ البَيْعَ) (البقرة/ 275).
التطبيق الحياتي: البيع لا يكون إلا لحاجةٍ، فمَن يشتري طعاماً أو أيّ شيء يصون به حياته وجسده فهو بيع، وهو معاوضة: تدفع مالاً لتشتري حاجة أو سلعة أو خدمة، ولا غُبن فيه. فالبيع مُباح لأنّه تمليك مال بمال وعن تراضٍ بين البائع والمشتري، وهو محور الحركة الإقتصادية في أيِّ بلد.
والسؤال: هل كل شيءٍ يجوز بيعه وشراؤه؟
الجواب: إن حلِّيّة البيع مُقيّدة ومشروطة، وليست مطلقة، فهناك أمور لا يجوز، بل يحرم بيعها وشراؤها، مثل: (المسكرات) كالبيرة والخمر والمخدّرات، و(الأعيان النّجسة) كالكلب والخنزير والميتة، و(آلات الحرام) كالأصنام وآلات القمار وآلات الموسيقى المثيرة للشّهوات.
والسؤال الآخر: هل يجوز لي كبائع أن أحتكر سلعتي فأمنع الناس من الانتفاع بها؟
الجواب: الإحتكار محرّم؛ لأنّه حبس السلعة الضرورية والامتناع عن بيعها بهدف انتظار زيادة قيمتها، مع حاجة المسلمين ومَن يلحق بهم من سائر النفوس المحترمة إليها، بحيث يوجب فقدها وقوع الناس في المهالك والآلام والحرج الشديد.
وكما لا يجوز الاحتكار، لا يجوز (الغشّ) في السلعة، وذلك بخلط الرديء مع الجيِّد وإيهام المشتري بأنّه كلّه جيِّد، وإخراج المسلم الغاش من أهل الإسلام وإن كان إخراجاً معنوياً، كما في الحديث: "ليسَ منّا مَن غَشّ". إلا أنّه تشديد على ضرورة النُّصح والإخلاص لعامّة الناس وخاصّة المسلمين في البيع، حتّى يسود جوّ من الثِّقة بين البائع والشّاري، ولذلك تفاصيله في كتب الفقه ممّا لا يسع المجال هنا للإستطراد فيه.
- ثانياً: الإشهاد على التبايع (توثيق المعاملات الماليّة):
قال تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (البقرة/ 282).
التطبيق الحياتي: أخطر ما يواجه الناس في حقل المعاملات المالية هو الخداع والنّصب والإحتيال، فهم ضحايا الغفلة، أو الدِّعاية المُغرية، أو تشغيل الأموال بأرباحٍ فاحشةٍ ثمّ يُصعَقوا بهروب المستثمر، أو خسارة صفقاته الوهميّة.
ولأجل حماية الإنسان المؤمن من أن يكون ضحيّة التلاعب بأمواله، يُقرِّر القرآن ضرورة توثيق المعاملات الماليّة وإثباتها والإشهاد عليها، فقد يتنصّل المَدِين ذمّته، إذا لم يكن للدّائِن أي مستند عليه.
هنا منهجٌ عملي يلحظ سقطات وأخطاء الناس الكبرى في مجال الثِّقة غير المدعومة بدليل مكتوب، أو شهادة مدوّنة، أو رهن مُعيّن يكفل استرداد الحقّ. وقد يقول أحدهم: لقد أودعتُ مالي عند مؤمنٍ صائمٍ مُصَلٍّ حاجٍّ لبيتِ الله. وكأنّ هذه ضمانات كافية لعدم التحايل أو خيانة الأمانة: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ) (آل عمران/ 75).
آية الإشهاد على البيع، والتي تشمل المعاملات الماليّة المختلفة، لا تُسْقِط عامل الثِّقة، لكنّها لا تريده أن يكون المستند الوحيد للتوثيق المالي من منطلق أرقام واقعيّة تُدلِّل على أنّ المَدِينَ قد يُنكِر دَيناً أو معاملةً ماليّة إذا لم يكن هناك إثبات ماديّ عليها. لما يعني أن تكون هناك ضوابط خارجية إضافة إلى الضوابط الداخليّة.
إنّ تشريع الإشهاد على التبايع اختياريّ وليس فريضة، ولكنّ المصلحة العامّة التي يقتضيها الحَذَرُ من حالات الغشّ والتزوير والنّصب المتزايدة لدرجة مُخيفة، تجعل منه أسلوباً واقعيّاً حكيماً، لتفادي أيّ حالات (استغفال) أو (استغلال) أو (احتيال).
وقد تكون الأجواء وقت التسليم مُشجِّعة وباعثة على الثِّقة، ولكن ما يُدرك ما يُخبؤه المستقبل، ولذا كان التوثيق ضمانة مستقبليّة للدَّيْن أو أية معاملة ماليّة موثّقة، فقد يُنكِر البائع بيعه، والمؤجِّر إجارته، والشريك شراكته، ولحكمةٍ بالغةٍ كانت آية الدَّيْن أطول آية في القرآن الكريم!!
- ثالثاً: التّطفيف في الكَيْل والميزان:
قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 1-6).
التطبيق الحياتي: وصيّة "أحبِبْ لأخيكَ ما تُحبُّ لنفسِك، واكْرَه لهُ ما تكره لها"، أو "عامِل الناس بما تُحِبُّ أن يُعاملوكَ به"، ليس مجالها الحيوي كلمات المودّة والتعاطف والعلائق الإجتماعية فقط، بل هي تتحرّك في ميدان واسع جدّاً يطال كل معاملة بالحُسنى، أو كلّ معاملة بالسّوء.
التطفيف إذاً مفهوم واسع يشمل أيّة معاملة يختلّ فيها التوازن بين أن تحوز النار لقرصك، وتترك قرص الآخرين نيئاً أو محترفاً. واختلال التوازن في العلاقات والمعاملات يعني (حيفاً) أو (جوراً) أو (تطرّفاً)، أي أنّه خلاف خطّ العدالة الإجتماعيّة التي جعلها تعالى من أولى الأولويات بعد توحيده.
ولذلك عدّ بعضهم التطفيف ليس مجرّد عمل محرّم يستحقّ ويستوجب فاعلهُ العقاب، بل هو سرقة وجريمة وأكل للمال بالباطل، وولهذا لا تكون التوبة عن هذا الذنب موجبة لزوال المسؤوليّة، بل لابدّ من إرجاع الزِّيادة إلى أصحابها بطريقة أو بأخرى.
قال تعالى: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء/ 181-183).
ولو كان للسوق لسانٌ لقال: إنّ صدى قول النبي (ص) يتردّد في أذني: "يا وزّان! زِنْ وأرجِح"!
- رابعاً: أكل السُّحْت:
قال تعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة/ 42).
التطبيق الحياتي: السّحت: الممنوع الذي يُسحِتُ دينَ صاحبه ومروءته فلا يُبقي منهما شيئاً، وسُمِّيَ الحرام سُحتاً؛ لأنّه يقطع البركة ويمحقها، وسُمِّيت الرشوةُ سُحتاً لهذا السبب.
ورُوي أنّ النبي (ص) عرّف السحت بأنّه: الرّشوة في الحُكْم ومهر البغيّ، ولعلّ تلك مصاديق لأكل السحت، الذي هو الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويُعيّر به الإنسان.
وزبدة ما نفهمه من النهي عن أكل السحت أو المال الحرام، هو أنّ الإسلام يريد لك أن تكسب طيِّباً، وتأكل طيِّباً، وتُنفِق طيِّباً، ولا يكون ذلك إلا من وجوه الكسب المُشرِّف والمشروع، ومن كلّ ما لا يتسبّب في أضرار إجتماعية.
إنّ كثيراً من الأعمال التي يحرم أخذ الأجرة عليها والتكسّب بها، كالغناء والرّقص والدعارة، والسمر والشّعوذة، خاصّة مع إضرارها بالغير، والمندَل (الإخبار عن المغيّبات)، واللعب بآلات القمار مع المراهنة، وغير ذلك، ليس عملاً نافعاً وإن بدت له بعض المنافع الظاهرية، فهو من جنس (إثمه أكبر من نفعه).. والقاعدة الأصولية تقول: كلّما زاد إثمه على نفعه فهو حرام.
- خامساً: الرِّبا:
قال تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة/ 275).
التطبيق الحياتي: يُعرّف الربا بأنّه: بيع المتماثلين جنساً وكميّةً بزيادة في أحدهما، أو إقراض مال بزيادة مادِّية عينيّة، كإقراض عشرة في مقابل خمسة عشر، أو بزيادةٍ معنويّة، أو حكميّة، كإقراض عشرة بعشرة بشرط صياغة خاتم، أو خياطة ثوب، وقد فُصِّل ذلك في كتب الفقه.
حياتيّاً يتسبّب الربا في تخريب النسيج الإجتماعي الذي أراد له الله تعالى أن يُبنى على البرِّ والرحمة والمروءة والمعروف، وأن تكون (القرضة الحسنة) هي التي تحلّ مشكلة الآخر، لا الربا الذي يُضيف لمشكلة المُعسِر مادّياً عبئاً مادّياً إضافيّاً.
إنّ المعاملات الربوية تخلق في نفس (المُقرِضِ) شعوراً بالجشع والإستغلال والغِشّ وآلاماً، بسبب حاجات ومعاناة الآخرين، كما تخلف في نفس (المُقتَرِض) شعوراً بالغُبن والحيف والحقد على المُرابي، فأيّ حياة يمكن أن تنتج عن استغلال بَشِع وإحساس بالقهر والإبتزاز؟!
وإذا كان الإسلام قد وضع حلاً عمليّاً في المزاوجة بين رأس المال والعمل في (المُضارَبة) التي تمثِّل الشركة بين صاحب المال والعمل ربحاً وخسارة، فإنّما أراد تحريك الإثنين معاً: رأس المال والقوى المُنتِجة، وهذه الروح منسجمة تماماً مع إرادة المُشرِّع الإسلامي للإنسان أن يكون إنسانيّاً لا مصّاصاً للدِّماء، ومن الذين يشتكون من فقر الدّم والدِّماء تضجّ في وجوههم وأجسادهم.
ولعلّ في المقارنة بين (محق الربا) نقصه، وبين (إرباء الصدقات) نموّها وزيادتها، مخاطبة للنفوس التي تُحسن الحساب، فالمُرابي ضعيف في الحساب؛ لأنّه لم يُدخِل الله في حسابه، والمُتصدِّق قوي في الحساب؛ لأنّه وضع الله في رأس حساباته.. ذاك يأتي الله والخسران يحيط به من كل جانب، وهذا يأتي وإذا بصدقته التي تشبه (فصيل الناقة) أي وليدها الصغير، وقد استحالَ جبلاً. فأيّ الإثنين ماهرٌ في الحسابات، دقيق فيها؟!
- سادساً: التّجارة:
قال تعالى: (لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) (قريش/ 1-2).
التطبيق الحياتي: لماذا كانت التجارة مُباركة؟
لأنّها (سعي) و(تبادل) و(تحريك) لعجلة السوق، و(تغطية) لحاجات المجتمع، و(غنى) في الثروة وعمّا في أيدي الناس، ولأنّها (العزّ) الذي ينمِّي ليس المال وحده بل (العقل) أيضاً.
قال معاذ بن كثير، بيّاع الألبسة للإمام الصادق (ع): (إنِّي هممتُ أن أدعَ السوق وفي يدي شيء (أي مال يكفيني). فقال (ع) له: "إذاً يسقط رأيك، ولا يُستعان بك على شيء".
ولحكمةٍ حياتيّة بالغة، فإنّ الله تعالى ربط العبادات بالتجارة مرّتين: مرّةً بأن رخّص الحاج بأن يبتغي فضلاً من ربِّه، مُستفيداً من الموسم العالمي، أو السوق الإسلامية الكُبرى ليُمارس تجارته، وهذا هو بعض ما يشهده من منافع الحج.
ومرّة حينما أتاح لمُصلِّي الجمعة أن يعود إلى تجارته بعد انصرافه منها، في إشارة إلى أنّ طلب الرزق لا يتنافى مع الأجواء الروحية، فطلب الحلال أيضاً عبادة، بل ورد في الحديث أنّ العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال.
ارسال التعليق