إنّ الإسلام، دين تسامح وتصافح وعفو، كما أنّه دين عالمي يتجّه برسالته إلى البشرية كلّها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وتُرسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جوٍ من الإخاء والتسامح بين كلّ الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. فالجميع ينحدرون من «نفس واحدة»، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء/1). دعا الإسلام الجميع إلى السلام، فبنى علاقة المسلمين ببعضهم ببعض على أساس المحبة والأخوة والتسامح. قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 20)، وجعل علاقة المسلمين مع غيرهم على أساس التعارف والتعاون، قال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، لا بل دعا المسلمين إلى البر بهم والإحسان إليهم، قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8). كما إنّ الإسلام قد قضى على مظاهر التفرقة والطبقية، وساوى بين الأفراد في الحقوق والواجبات، وأمر المؤمنين كافة بالدخول في السلم كي يتسنّى لهم تبادل المنافع وإشاعة الخير بينهم، وجعل علاقة المسلمين مع غيرهم قائمة على المسالمة والأمن وعدم الاعتداء إلّا إذا اعتدي عليهم، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190).
إنّ المنظومة الأخلاقية والسلوكية، التي شرَّعها الدين الإسلامي من قبيل الرفق والإيثار والعفو والإحسان والمداراة والقول الحسن والألفة والأمانة، وحث المؤمنين على الالتزام بها وجعلها سمة شخصيتهم الخاصّة والعامّة، كلّها تقتضي الالتزام بمضمون مبدأ التسامح. بمعنى أنّ تجسيد المنظومة الأخلاقية على المستويين الفردي والاجتماعي، يفضي لا محالة إلى شيوع حالة التسامح في المحيط الاجتماعي. فالرفق يتطلّب توطين النفس على التعامل الحضاري مع الآخرين، حتى ولو توفرت أسباب الاختلاف والتمايز معهم. والمُداراة تقتضي القبول بالآخر، واليسر والتيسير يتطلبان التعايش مع الآخرين، وحتى ولو اختلفت معهم في القناعات والتوجهات. إذ يقول عزّ مَن قائل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90). ومن خلال هذه المنظومة القيمية والأخلاقية، نرى أنّ المطلوب من الإنسان المسلم دائماً وأبداً وفي كلّ أحواله وأوضاعه، أن يلتزم بمقتضيات التسامح ومتطلبات العدالة.. فالتسامح كسلوك وموقف ليس منّة أو دليل ضعف في الالتزام بالقيم، بل هي من مُقتضيات القيم ومُتطلبات الالتزام بالمبادئ.
وعليه فإنّ التسامح الذي يقود إلى التعايش والاستقرار الاجتماعي وتطوير أواصر وأسباب التعاون بين مختلف أبناء وشرائح المجتمع، هو من صميم القيم الإسلامية النبيلة، وكلّ إنسان خالف ذلك، ومارس الغلظة والشدة في علاقاته الإنسانية والاجتماعية لدواعي مختلفة، هو الذي يحتاج إلى مبررات أيدلوجية واجتماعية.. فالأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، أن تكون علاقات قائمة على المحبة والمودة والتآلف، حتى ولو تباينت الأفكار والمواقف، بل إنّ هذا التباين هو الذي يؤكد ضرورة الالتزام بهذه القيم والمبادئ.. والإسلام دين يسعى من خلال مبادئه وتعاليمه إلى تربية المسلمين على التسامح إزاء كلّ الأديان والثقافات. فقد جعل الله الناس جميعاً خلفاء في الأرض، وجعلهم شركاء في المسؤولية عنها، ومسؤولين عن عمارتها مادياً ومعنوياً كما يقول القرآن الكريم: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود/ 62)، أي طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها. ومن أجل ذلك ميّز الله الإنسان بالعقل وسلّحه بالعلم حتى يكون قادراً على أداء مهمّته وتحمّل مسؤولياته في هذه الحياة بروح قادرة على البناء وذلك بوجود بذرة التسامح.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق