يرى خبير السلوك الأمريكي، د. بي جيه فوغ، أن حدوث أي سلوك يتطلب توافر ثلاثة عوامل في الوقت نفسه: دافعية محفزة؛ ومقدرة على فعل السلوك؛ واستنهاض يأتي من إشارة تدعو لانطلاق الفعل.
ولاستدامة السلوك المرغوب، لا بدّ من احتفال واحتفاء بتحقيق هدف القيام به. ولتوضيح ذلك ضرب مثلًا بموقف رنين الهاتف المحمول (استنهاض وإشارة لانطلاق فعل الرد على المكالمة)، وعدم الرد على الاتصال (عدم حدوث السلوك)، إمّا بسبب انشغال صاحبه (قصور المقدرة على الرد)، أو لأنّه لا يريد الردّ على المتصل لسبب ما (غياب الحافز).
يؤكد د. فوغ أن ما يبني العادات ليس مجرد التكرار، كما هو شائع، بل الانفعالات والمشاعر المصاحبة لها، فإذا كان الشعور إيجابياً، يعطي إشارة للدماغ تساعد على استمرار السلوك واستدامته.
لكن نظراً إلى أن مستوى الدافعية يرتفع ويهبط مما يعني أن السلوك قد يحدث وقد لا يحدث وأن الإنسان يميل بطبعه إلى الكسل ويفضّل الراحة على بذل الجهد، فليس من السهولة أن تتحقق أحلامنا الطموحة بإحداث تغييرات كبيرة في ممارساتنا.
لكن - لحُسن الحظ - وجد د. فوغ حلاً ومدخلاً جديداً لتغيير السلوك، أطلق عليه «عادات صغيرة جداً» (Tiny Habits)، وهو العنوان الذي اختاره لكتابه أيضًا.
وأسس مختبراً بجامعة ستانفورد لتصميم السلوك، يجري البحوث ويقدّم خدماته وبرامجه لطلاب الجامعة وللمهنيين وعموم الناس وجهًا لوجه وعبر موقعه الإلكتروني، لمزيد من فهم السلوك الإنساني والمساعدة على تغيير السلوك ورفع مستوى الشعور بالسعادة.
منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، عكف فوغ على دراسة السلوك البشري وسبل تغييره. ولاحظ كيف يفشل كثير من الناس في تحقيق أمنياتهم بالتغيير، إمّا لقصور الدافعية، أو بسبب عدم ملاءمة المهارات.
وبعد تجريب وبحث شمل عدداً من الشركات والمصانع - التي تسعى لتغيير سلوك موظفيها، أو تبحث عن حلول لمشكلات من خلال منتجات يستخدمها ملايين الناس يومياً - وعشرات الآلاف من الناس الراغبين بإحداث التغيير في حيواتهم، استطاع إيجاد طريقة لتصميم السلوك المطلوب تقوم على نموذجه الخاص (السلوك = دافعية محفزة + مقدرة على فعل السلوك + استنهاض)، بحيث لا يحتاج الأمر إلى دافعية مرتفعة طوال الوقت، ولا قدرات متقدمة. وذلك باتخاذ خطوات صغيرة جداً في اتجاه السلوك المرغوب بصورة تزيد من احتمالات النجاح بسهولة وبسرعة. ومع تحقيق النجاح يأتي الشعور المفرح، ويتكرر السلوك، وينمو مع الوقت حتى يتحقق الحلم الكبير. وفي حالة الفشل - لا قدّر الله - لن تكون الخسارة فادحة.
مفتاح النجاح
يكمن مفتاح النجاح في مدخل د. فوغ في عبارة «بعد أن ... سأقوم بـ....». وهذا يعني ضرورة البحث عن مكان أو توقيت يدمج فيه السلوك الجديد بصورة طبيعية في سياق الحياة. فعلى سبيل المثال، إذا رغب شخص في شرب لترين من الماء يومياً من أجل صحة أفضل، فعليه أن يبدأ برشفة ماء بعد استيقاظه من النوم صباحاً. وإذا فعل يهنئ نفسه على الإنجاز. وهكذا يمكن أن يصل إلى هدفه بزيادة عدد الرشفات، أو بإضافة سلوك جديد لشرب الماء بعد احتساء القهوة، أي يبدأ بحفظ عبارة «بعد أن أستيقظ في الصباح، أتناول رشفة ماء»، أو «بعد احتساء القهوة سأشرب نصف كوب ماء». ولكي يساعد نفسه بصورة أكبر، يتعيّن عليه تحضير ماء بقرب السرير، ومع فنجان القهوة. وهكذا يصبح الاستيقاظ يومياً أو شرب القهوة، استنهاضاً وإشارة لانطلاق فعل شرب الماء.
ويمكن تطبيق ذلك على مختلف جوانب الحياة، وتصميم السلوك المطلوب بأبسط الصور، كأن يبدأ من يريد بناء عادة القراءة اليومية، بقراءة فقرة واحدة من مقال أو من كتاب بعد سلوك اعتاد القيام به يوميًا بصورة طبيعية. أو يدمج أداء تمرين رياضي سهل الأداء في ممارساته اليومية، يقوم به بعد الانتهاء من نشاط ما.
ولمساعدة راغبي التغيير، وضع د. فوغ مخططًا يوضح تدفّق تصميم السلوك، ويتضمن المخطط عددًا من الأسئلة تبدأ بالسؤال الأول: «هل تشعر بالتحفيز الكافي لتعلّم مهارة جديدة؟»، فإذا كانت الإجابة بنعم، قل لنفسك: «عظيم، قم بذلك، ثم انتقل إلى السؤال الثاني»، وإذا كانت إجابتك «كلّا» انتقل إلى السؤال الثاني مباشرة.
السؤال الثاني: «هل تشعر بالتحفيز الكافي لتجد أداة أو مصدراً للسلوك؟»، إذا أجبت بنعم، قل لنفسك: «ممتاز، وقم بذلك، ثم انتقل إلى السؤال الثالث»، وإذا أجبت بكلّا، اذهب إلى السؤال الثالث.
السؤال الثالث: «هل يمكنك تبسيط السلوك إلى أقصى درجة؟» إذا قلت نعم، فقد أنجزت المهمة. يمكنك أن تبدأ فورًا ممارسة العادة الجديدة، وإذا أجبت بكلّا، انتقل إلى السؤال الرابع.
السؤال الرابع: «هل يمكنك إيجاد بداية ما لسلوكك؟» إذا أجبت بنعم، قل لنفسك: «عظيم، وانطلق بخطوة صغيرة، وعندما يروق لك ذلك أضف إليها المزيد». وإذا أجبت بكلّا عن جميع الأسئلة، فابحث عن سلوك آخر تغيّره أو عادة جديدة تبنيها، وحاول الرد على الأسئلة السابقة مجدداً.
العقل فوق المال
من البرامج التي يقدّمها مختبر تصميم السلوك بجامعة ستانفورد، برنامج «العقل فوق المال»، الذي يستهدف تغيير سلوك طلاب الجامعة المالي لتحقيق السلامة المالية مدى الحياة؛ حيث يوفر المختبر مصادر وأدوات لدراسة أثر البرنامج على تغيير السلوك، ثم العمل على وضع نموذج وطرق لتطبيقه على مستوى أشمل. ومن خلال التعاون والشراكات يتم تحسين الفهم ورفع الوعي وتقديم طرق تدخّل فعالة لغرس سلوكيات مالية ناجعة.
كما يوجد مقرر مصمم لتغيير السلوكيات لمواجهة كارثة التغيير المناخي، دشّن في عام 2019، وهو عبارة عن تدريب مجاني عبر الإنترنت، يقوم من خلاله خبراء المختبر بتدريس نماذج وطرق تصميم السلوك، ويساعدون المتعلمين من المهنيين على التطبيق في أعمالهم.
ومن البرامج الأخرى ما يتعلّق بزيادة الإنتاجية - التي أثبتت تصدّرها لرغبات التغيير، متفوّقة على رغبات تحقيق الأمان المالي، وحلم خسارة الوزن الزائد - والتقليل من التعرّض للشاشات في وقت أصبحت الأجهزة مؤذية لكل من الصحة البدنية والعقلية، حيث يستخدم البرنامج مبادئ تصميم السلوك لتقديم حلول فردية مفصلة على كل حالة ومناسبة للسياقات والمنصات المختلفة.
التطعيم ضد «كورونا»
من جانب آخر، يساهم مختبر تصميم السلوك بجامعة ستانفورد بتعظيم معدلات التطعيم ضد فيروس كورونا، وبحث تحديات تطعيم ملايين الناس والعوامل المؤثرة، وإجراء دراسات تحليلية ذات علاقة بسلوك تناول اللقاح وتصميمه باستخدام نموذج د. فوغ - وإن كان يختلف عن العادات المتكررة لكونه سلوك المرة الواحدة، حيث ينتهي الأمر بعد تناول الجرعة - فإذا تمتّع شخص بما يكفي من الحافز، والقدرة على تناول التطعيم سيتطعم مع الاستنهاض وإطلاق إشارة البدء سواء بحملة التطعيمات، أو بشعور باطني بضرورة التطعيم، أو رسالة نصيّة تصل من صديق.
بينما لن يتطعم رغم إلحاح الإعلانات والدعوات إذا ما كان الحافز غير كافٍ أو القدرة على التطعيم قاصرة، أو كلا الأمرين معًا. ولهذا يتم العمل على رفع مستوى التحفيز من خلال خفض مستوى الخوف من اللقاح ومضاعفاته، ورفع مستوى الأمل بتحقيق الحماية من الإصابة بالوباء. ورفع مستوى القدرة سواء بتوفير اللقاح بالمجان، أو تسهيل عملية التطعيم، حيث لا تتطلب جهداً أو وقتاً طويلاً؛ ودراسة سبل الاستنهاض، سواء بالتوعية والترغيب أو بقوانين ملزمة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق