قد يبدو الأمر مستغرباً عند البعض، ولا مكان للمقارنة بينهما، إذ كيف يمكننا الربط بين أمريكي أسودٍ، متهمٍ بالابتزاز والسرقة، وفلسطينيٍ من ذوي الاحتياجات الخاصّة، متهمٍ بالمقاومة وتهديد حياة الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، فالأوّل لا يملك قضيةً يناضل من أجلها، ويضحي في سبيلها، بل تطغى عليه شهواته وتحركه نوازعه وتدفعه منافعه، والثاني عنده أُمُّ القضايا وأقدس الأوطان، التي يناضل من أجلها ويضحي في سبيلها، ويحرّكه الواجب وتدفعه القيم والأخلاق والثوابت.
لكنّ الحقيقة أنّ المقارنة صحيحة والربط منطقي، فكلا الرجلين مظلومٌ ومضطهدٌ، ومستضعفٌ ومهانٌ، وكلاهما يدفع ضريبة الظلم والاضطهاد والبغي والعدوان، وكلاهما يعيش صراعاً قديماً وأزمةً مستعصية عميقة الجذور وقديمة التاريخ، وكلاهما يعاني من الاستعمار الجديد والجنس المستعلي، أحدهما يفاخر بلونه الأبيض وتفوقه العسكري، والثاني يدعي الفوقية والأفضلية، وأنّه الشعب المختار والأُمّة المُنتقاة، وكلاهما يستخدم الآخرين عبيداً، ويؤمن بكلِّ مَن سواه أجيراً عنده، خادماً يعمل لديه بالسخرة، أو حماراً يمتطيه وقت الحاجة، وبحجة التفوق يمارسان الظلم والقهر والبغي والعدوان، دون خوفٍ من رقيبٍ يحاسبهم أو قانونٍ يجرمهم.
كلا الرجلين يمثِّلان حالة ويعبِّران عن قضية، يشهد العالم كلّه بأهميّتهما وخطورتهما على المجتمع الدولي كلّه، وعلى الأمن والسلم العالمي، وعلى الاستقرار والازدهار الذي يتطلّع إليهم سكان الأرض جميعاً، لكنّ دول العالم غير جادة في التعامل مع قضايا الحقّ والعدل، وغير معنية بمواجهة الظالمين والمعتدين، خوفاً منهم أو تأييداً لهم، فهي ترى الظلم وتشجع عليه، وبعضها تمارسه وتدعو إليه، رغم أنّ الحقَّ في القضيتين بَيِّنٌ وجليٌّ، وواضحٌ وصريحٌ، إلّا أنّ ميزان العدالة الدولية مكسور، ومعايير الحقّ العالمية معوجةٌ.
الأوّل جورج فلويد يمثِّل مسألة الأقلية الزنجية والمواطنين الأمريكيين من ذوي البشرة السوداء المتحدرين من أُصولٍ أفريقيةٍ، الذين دفعوا في معركتهم من أجل نيل حرّيتهم واستعادة حقوقهم، والانعتاق من نير العبودية وذلّ الاسترقاق، وسيطرة الأبيض وكولونالية المستعمر، آلاف الضحايا والقرابين، ويشهد التاريخ الأمريكي على حراك الزنوج وثورات الملونين التي ذهب ضحيتها بعض قادتهم والعديد من رموز نضالهم.
ورغم أنّهم حصلوا قانونياً بموجب تشريعات الكونجرس الأمريكي وقرارات الرئاسة الأمريكية على حقوقهم، إلّا أنّهم ما زالوا يعانون من التمييز العنصري البغيض، الذي يحرمهم من حقوقهم رغم أنّهم مواطنون أمريكيون، إلّا أنّهم الأكثر عرضةً للاضطهاد والحرمان، وهم الأشد فقراً والأكثر بطالةً، والأقل امتلاكاً للسكن، والأقل استفادة من ميزات التأمين الصحّي والضمان الاجتماعي وحقوق التقاعد والشيخوخة، وهم يمثِّلون أكثر من 50% من نزلاء السجون الأمريكية، بتهمٍ تتعلّق بفقرهم وجوعهم، وعوزهم وحاجتهم.
أمّا الثاني وهو الفلسطيني إياد الحلاق، فإنّه يمثِّل القضية الفلسطينية ومعاناة شعبها، فعلى الرغم من أنّه من ذوي الاحتياجات الخاصّة، ولا يشكّل خطراً على حياة الجنود الإسرائيليين ومستوطنيهم، إلّا أنّ نيران الغدر طالته ورصاصات الجبن والعنصرية قتلته، وهي نفس السياسة العنصرية التي تتبعها سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين عموماً، فهي تستهدفهم جميعاً صغاراً وكباراً، ورجالاً ونساءً، ومرضى وأصحاءً، على مرأى ومسمعٍ من الرأي العام الدولي الذي يمارس الصمت المخزي والعجز المهين، ولا يحرك ساكناً إزاء جرائم الاحتلال المتكررة، والتي لا تطال الإنسان فقط، بل تمس كرامته وحقوقه وأرضه ومقدساته ومستقبل وجوده.
القاتل في الأولى كان هو العقلية الأمريكية العنصرية الاستعمارية التي يمارسها الشرطي الكابوي الأبيض البشرة، الذي ما زال يكرر جرائمه ضد المواطنين السود بصورةٍ يومية في كلِّ الولايات الأمريكية، والقاتل الثاني كان ولا يزال هو الجندي والمستوطن الإسرائيلي، الذي يمارس القتل بحماية الأوّل ورعايته، الذي يزوّد جيش العدوان بالسلاح المتطوّر وأدوات القتل الفتاكة، ليستخدمها في قتل وترويع الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، ليقتلهم أو يطردهم منها، ويحلُّ مكانهم في أرضهم وبيوتهم وديارهم، وهي نفس المنهجية الأمريكية والإنجليزية التي قتلت ملايين الهنود الحمر، وهم سكان أمريكا الأصليين، ليحلّ مكانهم المستعمر الوافد، ويستخدم فيها زنوج أفريقيا المرحلين إلى القارة الجديدة قسراً عبيداً لخدمته.
إنّها العنصرية والصهيونية، والاستعمار والاحتلال، والاستعلاء والاستكبار، الصفات الاحتكارية التي يتميّز بها الكيانان القاتلان، والإدارتان المجرمتان، الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، اللذان يسبّبان الفوضى في كلِّ مكانٍ في العالم، ويقوضان السلم والأمن الدوليين بالظلم وعنجهية القوّة وتفوق السلاح.
إنّهما أساس الفوضى والاضطراب، ولُب الأزمة ووقود الصراع، يتشابهان في الخلق والتأسيس، وسيتطابقان في التفكك والنهاية، والاضمحلال والزوال، وإن كان أوان الثانية قد أزف وحان، ونهايتها قد اقتربت واتضحت، فإنّ تباشير تمزق الأولى وانهيارها قد بدت وظهرت، وارتفعت أصوات المطالبين بالانفصال والداعين إلى الاستقلال، فما قام على الظلم سينهار، وما بُني على البغي سيهدم.
لن يستقيم حال البشرية كلّها وتستوي أُمورها، ولن تستقر أوضاعها ويسودها العدل والسلم، ما لم تصل بالقيم الإنسانية إلى خواتيم سعيدة ونهاياتٍ منصفةٍ، تنتصر فيها للمظلومين، وتقتص من الظالمين المعتدين، وتحفظ كرامة المضطهدين والمعذبين، وتعيد إليهم حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المهدورة، وإلّا فإنّ الدول التي تدعي القوّة ستنهار، وستعمها الفوضى وينتشر فيها الخراب، وستسودها شريعة الغاب وفوضى الاضطراب، وستشغلها القلاقل والمظاهرات، ولن تنفعها قوّة ولن يفيدها التفوق، إذ لا قيمة لقوّةٍ لا يسورها الحقُّ، ولا يعلي من قدرها العدلُ.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق