".. إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به..." (حديث قدسي)
قال رسول الله (ص) راوياً عن رب العزة: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" حديث قدسي. وهو حديث عظيم فيه فضيلة الصيام وميزته من بين سائر الأعمال، وأنّ الله إختصه لنفسه من بين أعمال العبد.
كان لأهل العلم أقوال عدة في تفسير معنى قول الله تعالى في الحديث القدسي "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به"، فقيل إنّ الصوم هو العبادة الوحيدة التي عُبدَ الله تعالى بها وحده ولم يعبد بها سواه عزّ وجلّ، وقيل لأنّ الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، وقيل غير ذلك ولا منافاة بين كل هذه الأقوال، ويحتمل أن تكون كلها مراده. ولمزيد من الشرح للنص الوارد في الحديث القدسي الذي رواه رسول الله (ص) عن رب العزة،
الله عزّ وجلّ قد خص شهر رمضان بمزايا خيرة، وفضائل عظيمة، فجعله شهر الإيمان والتقوى، وشهر الفرقان والهدى، وضاعف فيه ثواب الأعمال ورفع فيه الدرجات. قال تعالى في (الآية 185 من سورة البقرة): (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة/ 185). فطوبى لمن صامه إيماناً وإحتساباً لثواب الله، وإجتنب به النار إجتناباً، فكان في نهاره من الذاكرين، وعلى جوعه وعطشه من الصابرين، وكان في ليله من العابدين الشاكرين، فإنّ الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه، قال رسول الله (ص): "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
- الصوم لا يقع فيه رياء:
كثرت أقوال العلماء في معنى قوله: "الصيام لي وأنا أجزي به" مع أنّ الأعمال كلها له تعالى، وهو الذي يجزي بها. وأهل العلم في شرحهم لهذا المعنى على أقوال:
أحدها، أنّ الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره من الأعمال، فهو سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه غيره، لأنّ الإنسان يكون مع الناس، يذهب ويأتي، ويدخل ويخرج، ولا يعرف حقيقة صيامه ونيته إلا الله تعالى، فلذلك كان الإنسان في صومه أعظم إخلاصاً فيصل بذلك إلى مرتبة الإحسان، حيث يعبد الله كأنه يراه.
- يُعطى أجره بغير حساب:
ثانيها: أن عمل ابن آدم يزداد من حسنة إلى عشر أمثالها إلا الصوم، فإنّه يعطى أجره بغير حساب، يعني: أنّه يضاعف أضعافاً كثيرة، قال أهل العلم: وذلك لأنّ الصوم إشتمل على أنواع الصبر الثلاثة، ففيه صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
أمّا الصبر على طاعة الله: فلأن الإنسان يحمل نفسه على الصيام مع كراهته له أحياناً، يكرهه لمشقته، لا لأنّ الله تعالى فرضه، إذ لو كره الإنسان الصوم لأنّ الله تعالى فرضه لحبط عمله، لكنه كرهه لمشقته، ومع ذلك يحمل نفسه عليه، فيصبر على ترك الطعام والشراب والجماع، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
وأما الصبر على المعصية، وهذا حاصل للصائم، فإنّه يصبر نفسه عن معصية الله عزّ وجلّ، فيتجنب اللغو والرفث والزور وغير ذلك من محارم الله تعالى.
وأما الصبر على أقدار الله: وذلك أنّ الإنسان يصيبه في أيام الصوم – ولا سيما في أيام الصيف الحارة والطويلة – من الكسل والملل والعطش ما يتألم ويتأذى به، ولكنه صابر لأن ذلك في مرضاة الله.
فلما إشتمل الصوم على أنواع الصبر الثلاثة كان أجره بغير حساب، قال الله تعالى (الآية 10 من سورة الزمر): (.. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
- يتوفر أجره لصاحبه:
ثالثها: حضانة ربانية، إذ إن جميع العبادات تُوفى منها مظالم العباد إلا الصيام. فقد جعل الله سبحانه وتعالى الصوم له، وعمل ابن آدم الآخر، أي غير الصوم، لابن آدم. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنّه لي" ومعناه إذا كان يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد، فإنّه يؤخذ للعباد من حسناته إلا الصيام، فإنّه لا يؤخذ منه شيء. لأنّه لله عزّ وجلّ وليس للإنسان، وهذا معنى جيِّد. أنّ الصيام يتوفر أجره لصاحبه ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيء.
- الصوم نية:
رابعها: سبب الإضافة إلى الله تعالى أنّ الصيام لم يعبد به غير الله "في ما سبق"، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ومحو ذلك.
وخامسها: أنّ الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جلّ جلاله، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته، أضافة الله تعالى إليه. قال القرطبي: "معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنّه مناسب لصفة من صفات الحق. كأنّه يقول: إنّ الصائم يتقرب إليّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي". وقال ابن عبد البر في التمهيد: "فإن قال قائل: وما معنى قوله الصوم لي وأنا أجزي به وقد علم أنّ الأعمال التي يُراد بها وجه الله تعالى كلها له وهو يجزي بها؟ فمعناه – والله أعلم – أنّ الصوم لا يظهر من ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نية ينطوي عليها صاحبها، ولا يعلمها إلا الله، وليست مما تظهر فتكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر الأعمال، لأنّ الصوم في الشريعة ليس بالإمساك عن الطعام والشراب، لأن كل ممسك عن الطعام والشراب إذا لم ينوِ بذلك وجه الله ولم يرد أداء فريضة أو التطوع لله فليس بصائم في الشريعة، فلهذا ما قلنا: إنّه لا تطلع عليه الحفظة ولا تكتبه، ولكن الله يعلمه ويجازي به على ما شاء من التضعيف "أي في الثواب".
- مراقبة الله تعالى:
فإذا إستشعر الصائم هذا المعنى العظيم إنبعث إلى مراقبة الله – عزّ وجلّ في شؤونه، فالذي يطلع عليه في صيامه مطلع عليه في جميع أحواله. وهذا سر بديع، ودرس عظيم تفيد منه الأمة بعامة، ويفيد منه الأفراد بخاصة، فواجب على المصلحين أن يتنبهوا لهذا المعنى، وأن يحرصوا على إشاعته في الناس، ذلك أن وازع الدين والمراقبة لرب العالمين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازع القوة والسلطان، فإذا ألف المرء أن ربه يراقبه، وإستحضر شهوده وإطلاعه، فإنّ المجتمع يأمن بواقعه لا محالة، ويستريح من كثير من شروره. أما إذا كان الإعتماد على وازع القوة وحارس القانون، فإنّ القوة تضعف، وإنّ الحارس قد يغفل، وإنّ القانون قد يؤول، وقد يُتحايل عليه للتخلص من سلطانه. لذلك تكثر الجرائم والمفاسد إذا قلت التربية الدينية في مجتمع ما، فإذا أشعنا هذا المعنى في الناس، وعمدنا إلى تربيتهم بأسلوب الدين والفضيلة أرحنا، واسترحنا، ووفرنا جهوداً كبيرة، وإذا راقب الإنسان ربه، واحترمه في خلواته، ثبته الله وأظهر فضله بين العباد. قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: "ورأيت أقواماً من المنتسبين للعلم أهملوا نظر الحق عزّ وجلّ إليهم في الخلوات، فمحا محاسن ذكرهم في الخلوات، فكانوا موجودين كالمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحن إلى لقائهم".
وهكذا نستفيد من شهر رمضان في تحقيق العبودية والمراقبة لله تعالى، نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، وأن يجعلنا هداة مهتدين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق