قال تعالى: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا...) (العصر/ 1-3). الوقت عنوان الوجود، وفسحة الإنسان في الحصول على الدرجات التي توهِّله للدّخول إلى الجنّة، هو الوعاء الذي يجب أن يُملأ بالخير، وليس فيه أوقات الفراغ، فحتّى أوقات فراغه: استجمام واستراحة واستعداد للشّوط التالي.
الوقت الضّائع يعني ضياع فُرص ثمينة كان يمكن أن تنجِّي الإنسان من العذاب وتُقرِّبه من الجنّة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). وقتي الممنوح لي هو رصيدُ عمري، لأنظر كيف أشغله أو أستثمره؟ هو مسؤوليّتي لأعرف كيف أنشط فيه ليكون فاعلاً مثمراً. هو حياتي النابضة بالحركة العمليّة والفكريّة والروحيّة. هو الزمن المحدود الذي يُتيح لي الحصول على الخلود. هو أكبر رأس مال في الدنيا. يقول الإمام علي (ع): "مَن تشاغل بالزمان شغله"، أي مَن صرفهُ في غير الضروريّات، شغله وصرفهُ عن الضروريات.. فما أخسره من بائع. وما أجهله بقيمة ما لديه.
يُعيبُ الناس كُلّهم الزمانا **** وما لزمانِنا عيبٌ سِوانا
نُعيبُ زماننا والعَيْبُ فينا **** ولو نطق الزمانُ بنا هجانا
يقول الإمام الصادق (ع): "ما من يوم يأتي على ابن آدم إلّا قال ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فافعل بي خيراً، واعمل فيَّ خيراً، أشهَد لكَ يوم القيامة، فإنّك لن تراني بعدها أبداً". إنّ أيّامي وأيّامك وأيّامُ الناس ثلاثة: فالأمس مضى وهو اليوم (موعظة)، ويوم بقيَ، وهو الذي نحنُ فيه، وهو (غنيمة)، وغداً لا ندري مَن أهله؟ إنّ مراقبة الأوقات لا تعني استثمارها استثماراً جيِّداً فقط، بل الخروج من رتابتها أيضاً، فـ(المغبون مَن تساوى يوماه) بلا أيّ تطوّر أو تقدّم أو زيادة في الخير والعطاء. ومَن لا يعرف الزِّيادة في نفسه فهو في نقصان. ومراقبة الوقت تعني كذلك تقسيمه بما يؤمِّن الاحتياجات كلّها، لذلك قيل: إنّ ليلك ونهارك لا يستوعبان لجميع حاجات: فاقسمها بين عملك وراحتك. سُئل رسول الله (ص) عمّا كان في صحف إبراهيم (ع)، فقال: "كان فيها: على العاقل – ما لم يكن مغلوباً على عقله – أن يكون له ساعات: ساعة يُناجي فيها ربّه عزّ وجلّ، وساعة يُحاسِبُ نفسه، وساعة يتفكّر فيما صنع الله عزّ وجلّ إليه، وساعة يخلو فيها بحظِّ نفسه من الحلال، فإنّه هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب وتوزيع لها". والساعة تعبير عن الوقت، أي وقت للعمل ووقت للعبادة، ووقت للعلم، ووقت للراحة وتجديد النشاط.
أيضاً، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا* وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (النّبأ/ 10-11). قسّم الله أوقاتنا بلُطفه وحكمته، فوقت للعمل والنشاط والجِدّ والإجتهاد والكسب والتحصيل، ووقت للراحة والاستجمام والتعطيل. جعل اللّيل لنسكن فيه، وخصّص النهار لنبتغي فيه من فضله، فالنهار (نشور) لانتشار الناس فيه طلباً للرِّزق، واللّيل (سَكَن) لانقطاع الحركة والركون أو الخلود إلى الراحة والنوم. هذا هو التقسيم الحكيم والحكمة من اختلاف اللّيل والنهار، ولكنّنا نجد للأسف مَن قلب الآية، فجعل الليل نهاراً ليلاً، وقد يُعذَر مَن يعمل في الليل إن لم يجد فرصته للعمل بالنهار، ولكن من أين نجد العذر للّذينَ يمضون الليل بالسهر والثرثرة، واللّعب والتكالب على الملذّات المحرّمة؟ لقد خُصِّص السّهرُ لأعمال نافعة ومهمّة، كالحراسة، والعبادة، وطَلَبِ العلم، أو للإحتفاء بالزّواج السعيد، أمّا أن يبقى الإنسان ساهراً يُدخِّن ويخوض مع الخائضين، فهذا وقتٌ عليكَ وليس لك، ولذلك قيل: "اللّيل والنهار يعملان فيكم (أي بالهَدْم) فاعملوا فيهما (أي بالبناء)".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق