أسرة
النفع مساحة من الخيارات المفتوحة والمتعددة وغير المحصورة بأسلوب محدّد، فلك أن تنفع عباد الله (الناس) بما هو صالح من الأعمال والخدمات، وأن تتوسّل إلى ذلك بالوسائل الطيّبة، فالغايات الطيّبة تتطلّب وسائط طيّبة، وإلا فالذي يسرق من الآخرين ليُطعم الجياع ويساعد الفقراء لا يمكن أن نعتبره (نفّاعاً) وإن تصوّر هو نفسهُ أنّه ينفع هؤلاء المساكين بما لا يقدرون على تحصيله بأنفسهم.. هو ضارّ ومضرّ في الوقت نفسه، لأنّه يسرقُ من أفواه الآخرين ليُطعمَ أفواهاً أخرى، وما أمرهُ الله ورسوله وإسلامه بذلك!.. نعم، لهُ أن يُحرِّض الآخرين من المحسنين والأثرياء على الإلتفات إلى مَن لم يلتفتوا إليهم، فيكون له بذلك كأجر مَن أعطى وتصدّق لأنّ "الدالّ على الخير كفاعله".
علينا هنا أن نتذكّر أنّ رسول الله (ص) – وهو قدوتنا –: "ما سُئِل شيئاً قطّ، فقال: لا. وما ردَّ سائلَ حاجة قطّ إلا أتى بها، أو بميسور من القول" أي يأتي بالنفع العملي إن كان مستطيعاً، وإن لم يستطع فبما يتيسّر من الكلام الطيِّب، فإن تطييب الخاطر، والدعاء بالفرج، وإن يفتح اللهُ على المحتاج وييسِّر أمره، هو نوع من أنواع النفع، وما حدّثننا سيرته (ص) أنّه أخذ بالغصب أو الإكراه من أحدٍ ليعطيه لمحتاج أو مستحقّ.
مبادئ النفع العام كثيرة يمكن أن نقرأها ونستخلصها مما وردَ في سيرة النبي (ص) وآل بيته الطاهرين (ع) ومن سيرة المخلصين الصالحين المباركين النفاعين، ومنها:
1- أهل الخير.. أسرةٌ مفتوحة:
النصّ: "ألا وإنّ الله – سبحانَهُ – قد جعل للخير أهلاً".
التعليق: رآهم أهلاً للخير فجعلهم للخير أهلاً، أي وفّقهم للمزيد منه، وطبعهم بطابعه، فكان سيماؤهم في الناس أنهم أهل الخير، وبه يُعرفون.
كيفَ أكونٌ واحداً منهم؟
المسألة ليست في حجم الأرصدة لدى هذا أو ذاك.. هي في استعدادي أن أكون نافعاً مع قدرتي على النفع.. وكما بيّنّا، فكلّ الناس بما فيهم (العاجزون) او (المشلولون) قادرون على النفع، كلّ بحسب قدرته واستطاعته.
فالذي يقول: تعلّمتُ من العُميان الصواب لأنّهم لا يقدِّمون رجلاً ولا يؤخرون أخرى إلا بعد أن يتثبّتوا من مواطئ أقدامهم.. يؤكِّد أنّ العميان نافعون.
والذي يقول: إنّني تعلّمتُ من مُقعدٍ كسيح مشلول الحركة، كيف أتحرّك في حياتي، وأنّه استطاع بفكره أو قلمه أو صبره أن يحرِّك فيَّ الكثير من الأفكار النافعة، يشير إلى حقيقة أنّ المُقعَد نافع وإن عجز عن الحركة.. وهكذا فما أكثر (المعلِّمين) في (مدرسة) الحياة، ولكن ما أقلّ التلاميذ الذين يستوعبون الدرس ويحوّلونه إلى (منفعة).
2- نشدان الخير.. البحث عنه.. مهمّة جليلة:
النصّ: "إنّ مَن أحبّ عباد الله إليه عبداً لا يدع للخير غاية إلا أمّها ولا مظنّة إلا قصدها".
التعليق: الإنسان النفّاع بحّاثة.. يبحث عن غايات الخير ومقاصده وميادينه التي ينشط فيها.. لا يهمّه بُعد المسافة، ولا مشقّة الطريق، ولا العناء الذي يلاقيه، بل على العكس كلّما واجه المشقّة أكثر انفرجت أساريره أكثر، لأنّه سيُثاب أكثر، وسيكون قريباً من الله أكثر.
لذلك فهو لا يدع للخير غاية واضحة إلا وكان سبّاقاً لإقتناصها، أي يتوجّه إليها ليكون له فيها من الخير المأمول نصيباً.. ولا مظنّة (أي يتصور أنها فرصة أو محطّة للخير) إلا وسارَ تلقاءها لم يلتفت حتى يلبو فيها بلاءً حسناً.. إنّه لا يفوّت شيئاً من الخير، ما كان معلوماً أو مُحتملاً، فلا يدري فقط يكون فيما هو محتمل الخير الكثير.
3- إنتهاز فُرص الخير.. تبعاً لمهارة الصيّاد:
النصّ: "الفُرص تمرُّ مرَّ السحاب، فانتهزوا فُرصَ الخير".
التعليق: هاهنا فُرصة واضحة وشاخصة للعيان.. تقول لك: إغتنمي وإلا أصبحتُ بعد فواتي "غُصّة".. لا تقلْ: "السعيد مَن اكتفى بغيره".. بادر لتكون أنت الغانم أو المغتنم، ففرصتُك غنيمتك إن أهدرتها ضيّعت الغنيمة.. والصياد الماهر لا يرضى إلا بالسلّة الملأى..
بدلاً من مقولة (الوكالة): "السعيد مَن اكتفى بغيره" ليكن شعارنا: "اللّهمّ لا تستبدل بي غيري"!.. لا تكن هدّاراً للفرص مضياعاً لها لاسيما فُرص الخير التي فيها نجاتك وجنّتك.. يقول الشاعر:
وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفُرصتهِ **** حتى إذا فاته عاتبَ القدرا
4- كلُّ المعروف بركة.. لا تحقر (ستصغر) منه شيئاً:
النصّ: "إفعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبير وقليلهُ كثير، ولا يتولّى أحدكم: إن أحداً أولى بفعل الخير منِّي، فيكون – والله – كذلك"!
التعليق: المُبارَكون (النفّاعون) كبعض التجّار يقدّرون قيمة البضاعة بغير الثمن الذي ينظر إليها الناس العاديّون، أو غير المهتمين بالشأن التجاري، فقد تعجب لتاجرٍ يشتري بضاعة تبدو في نظرك قليلة القيمة، بثمنٍ غالٍ.
المُبارَكون يعتبرون كل المعروف (قيمة) و(غالي الثمن) فلا يفرِّطون فيه لصغره أو ضالّة حجمه، أو لأنّه تبدّى في أعين الناس صغيراً.
وانظر إلى نتيجة ما سبق أن أكّدناه من (الإحالة) و(الوكالة): "ولا يقولنّ أحدكم إنّ أحداً أولى بالخير منِّي فيكون والله كذلك"، فهي حتميّة ومقرونة بالقسم الغليظ أيضاً.
إنّ شعار النفّاعين هو هذا: "لا تستحِ من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه".
5- المسارعة في الخيرات.. سباق نحو الجنّة:
النصّ: "مَن ارتقبَ الخيرَ سارعً إلى الخيرات".
التعليق: المسارعة في الخيرات مصطلح قرآني: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (المؤمنون/ 61)، يسارعون لأنّه ليسَ في العمر مُتسع، فلا تقل في غدٍ أتوبُ، أو أحجّ، أو أعوّض ما فات، فلعلَّ غداً يأتي وأنتَ تحتَ التراب..
يسارعون في الخيرات لئلا يسبقهم إلى الخيرات سابق، فهم المبادرون السبّاقون إليها..
يسارعون إليها فقد تكون فيها نجاتُهم.. ويسارعون إليها لأنّ لله فيها رضا ولرسوله سرور، وللناس نفع ومصلحة..
هنا نحنُ أمام المعادلة التالية:
مرتقب (الخير) ↔مسارع إلى (الخيرات)
وأخيراً..
يسارعون إلى الخيرات لتزداد نسبة المتسابقين والمتنافسين في مضمار الخير.
6- الإعانة على الخير.. خيرٌ بحدّ ذاته:
النصّ: "إذا رأيتم الخير فأعينوا عليه، وإذا رأيتم الشر فاذهبوا عنه، فإنّ رسولَ الله (ص) يقول: يا بني آدم! إعمل الخير ودعْ الشر، فإذا أنتَ جوادٌ قاصد".
جوادٌ قاصد ذاتُ وجهين أو تفسيرين:
1- أي حصان يقصدُ غرضه وهدفه في شوط السباق فيبلغه.
2- أو كريم يقصد نيل مرضاة الله بعمل الخير.. فينالها.
والمعنى واحد، فالأوّل تشبيهي أو كنائي (كناية عن)، والآخر تطبيقي ومصداقي، أي (نموذج لـ).
ربّما لا يُتاح للنفّاع إصابة الخير على يديه دائماً، فإذا أجراهُ الله تعالى على يدي غيره، وكان بوسعه الإعانة، ومدّ يد المساعدة والرفد والمدد، فلا تقول له نفسه: دع عنك هذا.. هذا خيرُ غيرِك.. إبحث لك عن خيِّر خاصّ بك.. فهو إمّا فاعل للخير (بنفسه) أو فاعل للخير (بغيره) أي مثال لآخر أو آخرين في فعل الخير، وفي كلا الخيرين خير، فالمشارك كالأصيل.
في بعض – وربّما في أغلب القرى والأرياف العربية – هناك مفهوم سائد يسمّونه "العونة" وهو اشتراك أهل القرية أو الريف في زراعة حقل أحد الفلاحين، ومساعدته في جني محصوله، كما يقدِّم هو بدوره دعمه وعونه لإخوته وزملائه الفلاحين إذا جاء دور زراعة حقولهم أو جني محاصيلها، فما أجملها وأروعها صورة من صور "النفع المُتبادل" أو تبادل المنفعة، والأخوّة والتعاون.. تشعرك أنّك والآخر أبناء أسرة واحدة متضامنة متكافلة.. إنها نخوة مباركة يباركُ الله فيها للجميع: (متعاونين) و(محتاجين للمعونة).. ولذلك جاء في آدابنا: "أفضلُ المؤمنين أفضلُهم تقدمة من نفسه وأهله ماله"!
7- جوائز النفع.. مُعجّلة ومؤجّلة:
الجائزة الأولى: "من كفّارات[1] الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب".
التعليق:
(الملهوف): = المُحتاج الذي يتلهّف لقضاء حاجته.
(المكروب): = صاحب المشكلة أو المصيبة.
(الإغاثة): = المساعدة في قضاء حاجة المحتاج، والتنفيس عن كربة المكروب.
أي إنجاز الحاجة هناك والتخفيف من وطأة المصيبة هنا.. فتأمّل في (الشرط) ولا تنشغل بـ(الجائزة) فهي آتية لا محالة لمجرد أن يتحقّق الشرط.
الجائزة الثانية: "مَن كثُرت نعمُ الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قامَ بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومَن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء".
التعليق:
نفع العباد = دوام النعمة
وهذه جائزة دنيوة عاجلة لا يعرفها ولا يعرف قيمتها إلا النفّاعون المُباركون.
الجائزة الثالثة: "ليكن سرورك بما قدّمت وأسفك على ما أخلفت، وهمّك فيما بعد الموت".
ومثلها كذلك: إنّ المرء إذا هلك (مات) قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ لله آباؤكم فقدّموا (بعضاً) يكن لكم (قرضاً ولا تُخلفوا (كُلاً) فيكونُ لكم (قَرضاً)".
فالعمل النافع والصالح عموماً بمثابة قرض يؤدّه الله للنفّاعين أضعافاً مضاعفة.
- الجائزة الإجتماعية:
النفّاعون عُمّال الله.. يعملون له وينتظرون الجزاءَ منه.. أمّا ما يصلهم من شُكر الناس وتقديرهم والثناء عليهم وتثمين أعمالهم فهو من بعض لطف الله عليهم أن جعلَ محبّتهم في قلوب مَن يُحسنون إليهم، ولو انتظر المُباركُ النفّاع تثمين الناس لما قدم من نفعه سوى القليل، فقليلٌ من الناس الشكور.
الجوائز الإجتماعية تأتي تباعاً وعلى نحو تلقائي وغير منتظر أحياناً..
ننقلُ لك عن مجلة (المختار) بتصرّف القصة الواقعية التالية التي يرويها أحد السيّاح الذي زار إسبانيا:
"وقعَ لي في مدينة (سيفيل) حادثُ طريف.. فبعدَ أن غادرتُ الفندق لأتجوّلَ في المدينة، إعترضني صبي صغير في ثياب بالية إستطعتُ أن أفهم منه أنّه يريد منِّي إحساناً، فأعطيته قطعة نقود صغيرة وانصرفتُ باسماً.
وبعدَ أن ابتعدتُ عن وسط المدينة إلى ضواحيها وأردتُ العودة إلى الفندق ضللتُ طريقي إليه، وفجأة لاحظتُ صاحبي الصغير يتبعني، فناديته وبيّنتُ له بالإشارة أني ضللتُ الطريق (تُهت)، فابتسم وعادَ بي إلى الفندق.
تناولتُ محفظتي ومددتُ إليه بورقة ماليّة كبيرة، لكنّه هزّ رأسه وعقد يديه الصغيرتين وراء ظهره رافضاً أن يأخذ المبلغ بإصرار، ومع تدخّل مدير الفندق فهمتُ أنّه لا يريدُ مالاً فإنّ قبوله الإحسان شيء، وقيامهُ بخدمة نحو صديق شيء آخر، فالناسُ لا يؤجرون على خدمات يقومون بها نحو الأصدقاء الطيبين"!
هل هو ردُّ الإحسانِ بإحسانٍ مثله؟
هل هو جزاءُ الإحسانِ بإحسانٍ أكبر منه؟
هل هوَ (النفعُ) في مقابل (النفع)؟
أياً كان، فالجوائز الاجتماعية لها معانٍ متعددة.. واحدٌ من معانيها أنّ النفع يجعلك صديقاً صدوقاً ومحبوباً من قبل الآخرين، وقد يرتقبون خدمتك في أقرب فرصة.
[1]- سُمِّيت الكفّارة كفّارة لأنّها تغطّي وتستر، ويسمّى الفلاح كفّار لأنّه يغطي البذور بالتراب.
ارسال التعليق