• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«الميثاق» أسمى أنواع العبودية

أ‌. الشيخ محمد مهدي الآصفي

«الميثاق» أسمى أنواع العبودية
◄في العقود والمواثيق يلتزم كل من الطرفين عادة بالتزامات، ويقابل كل إلتزام من أحد الطرفين تعهداً من الطرف الآخر... وهذا عرف شائع في المواثيق. أما في ميثاق العبودية والطاعة الذي يأخذه الله تعالى من عباده، فلا يقابله شيء، وليس في مقابل هذه الطاعة المأخوذة في الميثاق شيء من الثواب يستحقه الإنسان، وليس في مقابل ميثاق الطاعة إلا إستحقاق الطاعة لله تعالى على عبادة الذي يستتبع الربوبية (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف/ 172)؟ فالطاعة في مقابل إستحقاق الطاعة، والميثاق والالتزام في مقابل الربوبية، والله تعالى أهل للطاعة والحب، مستحقهما على عباده بربوبيته. وأما صور الثواب والجزاء الواردة في آيات الميثاق، والمترتبة على العمل بالميثاق، فليست هي المقابلة للميثاق، وكما ليست صور العقاب الواردة في آيات الميثاق هي الموجبة للعمل بالميثاق... فإنّ الإقرار بربوبية الله تعالى كاف لهذا الإلزام، والتعهد والميثاق، وصور الثواب والعقاب في آيات الميثاق تكريم من الله تعالى للآخذين بالميثاق، وعقوبة على التخلف عن الميثاق. ومثل ذلك مع بعض الفوارق – مثل الجوائز والهدايا التي توزعها المدارس على طلابها المتفوقين والناجحين، والعقوبات المدرسة التي تفرضها المدرسة على المتخلفين.. فليست هذه الهدايا والجوائز ولا تلك العقوبات هي الملزمة والموجبة للطالب بالدراسة والإجتهاد فيها... بل هو طلب العلم، وإنما تؤدي هذه الهدايا دور التشجيع للطالب، كما تؤدي العقوبات دور تخويف الطالب من التخلف عن الدراسة ولن يكون هذا التشجيع والتخويف باعثاً على الدراسة والإجتهاد فيها إلا للطلبة المتخلفين في الوعي، أما الطالب الواعي فهو يدرس لتحصيل العلم فقط. وهذا المعنى واضح في آية الميثاق في سورة الأعراف (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/ 172). فالعامل الوحيد الذي يلزم الإنسان بالميثاق في هذه الآية الكريمة هو الإقرار بالربوبية (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وليس ما وراء ذلك شيء. والآيات التي تشير إلى الثواب والعقاب في شأن العاملين بالميثاق والمتخلفين عنه شأنها ما ذكرنا من أمر الترغيب والترهيب كقوله تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * ..لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) (الرعد/ 20-23). وقوله تعالى في بني إسرائيل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة/ 13). فاللعن وقسوة القلوب من الآثار التكوينية والجزائية المترتبة على نقض الميثاق يُخوف الله به عباده، لكن العامل الملزم للإنسان بالميثاق هو الإقرار بالربوبية. وهذه الطاعة النابعة من الميثاق، والقائمة على أساس الإقرار بالربوبية، والإيمان باستحقاق الله تعالى للطاعة على عبادة... هو أفضل أنواع الطاعة والعبادة، بل نستطيع أن نقول هي الصيغة الوحيدة للعبودية، والعبادة، بمعناهما الدقيق أو الكامل في مقابل العبادة والطاعة النابعتين من خوف العقاب ورجاء الثواب. ولابدّ لهذا الإجمال من تفصيل منقول: إن هناك ثلاثة أنواع من العطاء والعمل وهي: 1-    الإحسان 2-    الوفاء 3-    العمل للجزاء والأجر   -        الإحسان: أما الإحسان فهو حب الخير والجود والعطاء لذاته، من دون أي توقع أو ترقب للمقابلة من الطرف الآخر في المستقبل، ومن دون أن يكون هذا الإحسان جزاء على عمل صالح للمحسن إليه فيما سبق، كما تعطف الأُم على رضيعها الصغير، ويعطف الأب على أولاده الصغار، وكما تعطف على طفل صغير يتعرض للغرق أو الحريق فتخاطر بنفسك لإنقاذه دون أن تبتغي في ذلك جزاءً وأجراً. ومثل الإحسان مثل العين التي تنبع بالماء بصورة عفوية دون أن يكون في هذا النبع لحاظ للمقابلة. وكذلك في نفس الإنسان نبع يتدفق بالخير في حالة سلامة الفطرة، وحب إلى الخير من دون أي توقع ومقابلة. وسيد المحسنين هو الله تعالى، وهذا الكون والوجود كله من إحسانه تبارك وتعالى لم يرد به مقابلة أحد في جميل فعله من قبل، وهو الأوّل والآخر ولم يقصد به أجراً وجزاءً من عباده في المستقبل، وهو الغني عن عباده تبارك وتعالى. ففعله الإحسان، وشأنه الجود والكرام، ولا حد لإحسانه وجوده، وإنما تختلف حظوظ الناس والأشياء من إحسانه وكرمه لإختلاف الاستعدادات واختلاف الأواني في قبول رحمة الله تعالى وفضله وإحسانه، وإلا فليس في إحسان الله تعالى وفضله شح أو بخل أوحد. أرأيت المطر ينزل من السماء غزيراً، فيأخذ منه كل إناء بقدر سعته واستعداده فتمتلأ منه البحيرة الكبيرة، ويمتلأ منه الحوض الصغير، وتمتلأ منه الحفرة الصغيرة ويمتلأ منه الكأس بقدره والقدح بقدره. (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد/ 17)، كذلك تنزل رحمة الله تعالى عزيزة، ومن دون حدود فيأخذ منه كل شيء وكل شخص بقدر إنائة. واختلاف الإستعدادات والأواني، منه ما يعود إلى ذات الأشياء وماهيتها لا يمكن أن يتغير، كاختلاف الحجر عن الإنسان، فإن إستعداد ذات الحجر وماهيته لقبول رحمة الله بالمقارنة مع الإنسان إستعداد محدود، والله تعالى إذ يخلق الحجر والإنسان ويفيض عليهما الوجود، ويخرجهما من دائرة الإعدام إلى دائرة الضوء ودائرة الوجود لا يبخل على أحدها ويجود على الآخر بما يبخل به على الأوّل، وإنما الإختلاف في ذات وماهية كل منهما، واستعداد كل منهما في قبول نعمة الوجود، فيكون للإنسان من الحظ من نعمة الوجود ما لا يكون للحجر. وقد يكون هذا الإختلاف في الإستعداد أمراً كسبياً، فيكتسب الإنسان بالعلم والعمل من الإستعداد والقابلية لقبول نعم الله تعالى واحسانه ما لا يكون لفاقدهما ويكون اختلاف إستعداد الناس في قبول رحمة الله تعالى بمقدار حظهم من العلم والعمل.   -        الوفاء: أما الوفاء فهو نوع آخر من العطاء يلحظ فيه المقابلة للإحسان في الماضي دون أن يلحظ فيه أي توقع للأجر والجزاء في المستقبل. والوفاء هو مقابلة الإحسان، ولكن بدون أي توقع للأجر والجزاء في المستقبل. كما يفي الإبن لوالديه، وكما يفي التلميذ لأستاذه، وكما يفي الضيف لمضيفه، وفي كل ذلك لا يتوقع الإنسان أجراً وجزاءً في المستقبل، وبالتالي لا يصدر الإنسان في الوفاء عن رجاء ثواب، ولا عن خوف عقاب، فإن أمر الثواب والعقاب للمستقبل والوفاء في مقابل الإحسان فيما مضى. وبذلك فإن قيمة الوفاء دون قيمة الإحسان، لأنّ الإحسان لا يلحظ فيه المقابلة للماضي ولا للمستقبل أصلاً، ولكن يلحظ في الوفاء عنصر المقابلة، إلا إن هذه المقابلة تحتفظ برقة خاصة ولطف خاص في المعادلات والمقابلات، فإنّ المقابلة تنصب على الماضي فقط، وليس فيه لحاظ للأجر والثواب والعقاب في المستقبل، وليس فيه أثر للطمع والخوف، وبالتالي ليس فيه أثر للذات والأنا.   -        العمل في مقابل الجزاء: وأما العمل الصادر في مقابل الأجر والجزاء فيلحظ فيه أوّلاً – المقابلة والموازنة للأجر والجزاء. وهذا الأجر والجزاء يتعلق بالمستقبل، ثانياً، وليس من شأن الماضي فيكون ناشئاً عن الخوف والطمع، والخوف والطمع من شؤون المستقبل، ولذلك فإن رائحة (الذات) و(الأنا) تفوح منه بصورة واضحة وقوية. والطرف الآخر من هذه الموازنة والمعادلة الجزاء والأجر.   -        الجزاء: وفي الجزاء، وهو الطرف الثاني من هذه القضية عنصر المقابلة، وليس فيه عنصر الموازنة والمعادلة. فإنّ الجزاء غير (المكافأة) ففي المكافأة يلحظ التكافؤ الكمي والكيفي بين العمل والجزاء، ومقابلة النعمة بكفؤها، ولذلك، لم يصف القرآن الكريم عطاء الله تعالى في جزاء عباده بالمكافئة، وانما وصفه بالجزاء فقط. ويعطي الله تعالى جزاء العاملين في كل عمل بأحسن ما كان من نوعه في حياة الإنسان، وليس بمقدار ذلك العمل وحجمه وكيفيته. وإلى هذا الإكرام يشير القرآن الكريم: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة/ 121). (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 96). (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 38). (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 38). (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (العنكبوت/ 7). ونلحظ في الجزاء: 1-    انّ الجزاء من الله أوّلاً في مقابل العمل، ولكن ليس بوزن العمل وحجمه، وكيف يمكن أن يوزن ما هو زائل بما هو باق: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) (النحل/ 96). 2-    وحتى في هذه المقابلة يختار الله تعالى من عمل كل عامل من كل نوع أفضله وأشرفه، فيختار من صلاته أفضل صلواته وأشرفها وأكثرها حضوراً للقلب وإخلاصاً، ويجعلها مقياساً للمقابلة بالجزاء في سائر صلواته. ولنوضح هذا المعنى توضيحاً أكثر: يختار المدرسون في إمتحان الطلاب طريقتين: فقد يخضع الطالب في مادة واحدة لعدة إمتحانات فيجعل المدرس بازاء كل إمتحان درجة الطالب في ذلك الإمتحان فيكون درجته جيدة في امتحان ورديئة في إمتحان أخر. وقد يجمع هذه الدرجات جميعاً ويقسمها على عدد الإمتحانات، ويستحصل في ذلك معدلاً لدرجة توفيق الطالب وفشله في تلك المادة. وهاتان طريقتان معروفتان في الجزاء في سائر شؤون الإنسان أيضاً. أما الله تعالى فإنّه يختار من كل مادة من عمل الإنسان كصلاته، وصيامه، وزكاته، وجهاده، أفضل إفرادها، ثمّ يجعل ذلك الفرد مقياساً للجزاء لسائر أفراد تلك المادة من عمله فيجزي كل صلاة له بثواب أفضل صلواته وهكذا صيامه وحجمه وانفاقه. وذلك كما ترى معنى قوله تعالى: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ودفعاً لبعض ما قد يرد على الذهن من الشبهة نقول: إنّ سعي كل إنسان وكدحه إلى الله تعالى وجهده في العمل والعبادة، يرفعه إلى مرحلة من مراحل القرب من الله تعالى، يتحدد بجهده وعمله ضمن هذه المرحلة، كما يتقدم الطالب بجهده وعمله من مرحلة إلى مرحلة دراسية. وتختلف مستويات الناس ودرجاتهم في القرب والبعد من الله تعالى، باختلاف هذه المراحل. ولكل مرحلة سقف وأرض (حد أعلى وحد أدنى) وتتردد طاعة العبد وجهده في كل مرحلة بين هذين الحدين، فقد يقبل على الله تعالى في العبادة والعمل باخلاص، فيكون في قمة المرحلة، وقد تنتابه فترات الفتور والضعف، فيكون عمله في الحد الأدنى من المرحلة. فإذا جزى الله تعالى عباده باعمالهم فإنّه عزّ شأنه يجزي كل عبد في كل عمل بأفضل فرد من ذلك العمل، وهو الفرد الذي يقع في أعلى مستوى من المرحلة التي بلغها بجهده وعمله في سلوكه وكدحه إلى الله. وبذلك فإن هذا الفصل العظيم يقترن بالعدل الإلهي، ولا يودي، إلى تداخل هذه المراحل من مستويات العبادة في قربهم إلى الله تعالى. 3-    ولا يتوقف فضل الله تعالى ورحمته بعباده عند هذا الحد، فإنّ الله بعد ذلك يزيد العبد من عنده ما شاء من فضله ورحمته (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).►   المصدر: كتاب (الميثاق "2"/ سلسلة في رحاب القرآن)

ارسال التعليق

Top