• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«حبّ الوطن من الإيمان»

عمار كاظم

«حبّ الوطن من الإيمان»

أودع الله في الإنسان العديد من الغرائز الضرورية لحياته ولأداء دوره في هذه الحياة، ومن هذه الغرائز، غريزة حبّه لوطنه. فالإنسان بطبيعته يحبّ وطنه؛ مسقط رأسه، ووطن آبائه وأجداده، ويألف الأرض التي تربّى فيها، وترعرع عليها، وتنفّس هواءها، وارتوى من مائها، وأكل من خيراتها، ونسج فيها علاقاته مع الذين يعيشون معه فيها. وورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): «من كرم المرء، بكاؤه على ما مضى من زمانه، وحنينُهُ إلى أوطانه، وحفظه قديم إخوانه»، فالإنسان يحظى بالكرامة إن بقي حنينه لوطنه. هذا الحبّ لا يكون بالأقوال فقط، بل يكون فعلاً وقولاً، فالوطنُ يحتاج إلى سواعدِ أبنائه كي ينمو ويكبر، ويحتاج إلى السعي والتطوير، وإلى الحفاظ على مقدّراته والدفاع عنه في كلّ وقت وعدم التفريط بأي شبرٍ منه، فالوطن دون سواعد أبنائه يُصبح أشبه بمنفى، وهو يُعطي أبناءه بقدر ما يُعطونه، وكلّما كان عطاؤهم أكبر كلّما كان الوطن أكثر جمالاً وتطوّراً، ولهذا فإنّ حبّه جزءٌ لا يتجزأ من إيمانِ الفرد.

نعم، إنّ الإنسان قد جُبل وفُطر على حبّ وطنه؛ إذ إنّ الإنسان إذا وُلِد في بلدٍ ما، ونشأ فيه، وترعرع في كنفه؛ فمن الطبيعي أن يحبّه، ويُواليه، وينتمي إليه، ويجدر بالذكر أنّ الله تعالى ربط حبّ الأوطان بحبّ النفس في القرآن الكريم، حيث قال جلّ جلاله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (النِّساء/ 66). وليس من السهل أن يفارق المرء وطنه الذي عاش في كنفه، ولذلك اعتُبرت هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يحبّ وطنه مكّة أكثر من أي مكانٍ آخر، وحين هاجر منها فإنّه لم يتركها إلّا مضطراً، وهذا لا ينطبق على الإنسان فقط، فالحيوانات أيضاً تحزن إن فارقت أوطانها، فالطيور المهاجرة تعود إلى وطنها مهما قطعت من مسافات، والنباتات أيضاً تنتمي إلى بيئاتها وأوطانها، فالنبتة التي تُقتلع من جذورها تذبل وربّما تموت.

حبّ الوطن حبٌّ عظيم يجب ألّا يُخالطه رياءٌ أو نفاق، لأنّ مَن لا يحبّ وطنه بحقّ لا يستحقّ أن ينتمي إليه أو يعيش فيه، ومَن لم يكن وفياً لوطنه في الحرب لا يستحقّ أن يعيش فيه وقت السّلم، فالوطن يحيا بدماء أبنائه، ويُزهر بسواعدهم، ويتطوّر بعقولهم، والوطن هو الوطن بجميع حالاته وتقلّباته، وإن تعرّض الوطن لأي خطر، فلابدّ أن يتحوّل جميع أبنائه إلى جنود؛ لأنّ كرامة الوطن فوق كلّ كرامة، ولهذا طالما تغنّى الشعراء والأدباء بالوطن وقالوا فيه أروع القصائد الخالدة وأجمل الأشعار والكلمات، ولا عجب أنّ القصائد التي تُقال في حبّ الوطن تظلّ خالدةً يُكرّرها الجميع على اختلافِ مذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم، فمهما تفرّقت ميولُ أبناء الوطن الواحد فإنّ الوطن يجمعُهم في ظلّه وتحت كنفِه لأنّهم منه وهو منهم.

إنّ الرابطة العاطفية بالأوطان واعتبار الشوق إليها مكرمة من مكارم الأخلاق تشّكل في حقيقة الأمر دافعاً للاهتمام بها ورعايتها والعمل في سبيل إعمارها وإحيائها والحرص على جمالها ونظافتها، وهذا ما عبّرت عنه الكلمة المروية عن الإمام عليّ (عليه السلام): «عمرت البلدان بحبّ الأوطان»، كما أنّ العلاقة العاطفية المشار إليها هي الباعث الأساس للدفاع عن الأرض والقتال في سبيلها وبذل النفس دونها، قال تعالى: (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة/ 246). وترتفع بعض المأثورات الدينية بحبّ الوطن عن مجرد كونه انفعالاً إنسانياً عاطفياً إلى درجة الفعل الإيماني لترى فيه علامة إيمان، فقد رُوِي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حبّ الوطن من الإيمان»، فإنّ حبّ الأوطان عندما يكون حبّاً واعياً ودافعاً للحفاظ عليها والدفاع عنها بوجه المعتدين والطامعين ومحرِّكاً نحو عمارتها مادّياً ـ بإحيائها وزراعتها وتشييدها ـ ومعنوياً ـ بالعمل على إحقاق الحقّ في ربوعها ونشر القيم الدينية والأخلاقية بين أهلها. إنّ مثل هذا الحبّ هو فعل إيمان وتديّن يُثاب المرء عليه، كما يُثاب على كلّ الأعمال الصالحة والعبادية.

ارسال التعليق

Top