من الحقائق التي كفلها الإسلام للإنسان، هي حقيقة تكريم الله عزّوجلّ له، وذلك بحفظه بما جعل له من الحرمات والحقوق منذ أن خُلِقَ على وجه هذه البسيطة واستُخلِفَ في الأرض، ليكون بهذه الحرمات والحقوق عبداً لله محفوظاً مُكرّماً أينما وُجِد، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تكريمه لبني آدم حيث يقول جلّ شأنه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء/ 70). إنّ كرامة الإنسان تتجلّى منذ النشأة الأولى، فمن تكريم الله تعالى له أَن خلقه في أحسن صورة، وأبهى هيئة، قال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار/ 7-8). ومن تكريم الله للإنسان أن حفظ له دينَه ونفسَه ومالَه وعقلَه وعِرضَه، وحرّم الاعتداء على شيء من ذلك، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعِرضُهُ». فهذا بيان شافٍ كافٍ لمنزلة هذا المخلوق عند الله عزّوجلّ، فهي كرامة عامّة شاملة، كرامة لا تفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين لغة ولغة، لقد أعطى الله جلّ وعلا هذا الإنسان حقوقه كاملة، وخَصّه بخصائص لم تكن لغيره من المخلوقات، فسَخّر له جميع ما في السماوات وما في الأرض فضلاً منه وإحساناً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ( لقمان/ 20).. فهذه آيات واضحات ودلائل تدل على تكريم الله لهذا الإنسان، بل من تكريم الله لهذا المخلوق أن الله قذف في قلبه المحبة والألفة والرحمة بينه وبين غيره من بني جنسه ونعني بذلك المؤمنين من بني آدم، حيث جعلهم كأنّهم أبناء رجل واحد، وجاء هذا جَليّاً في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات/ 10) وهذه هي الأُخوّة في الله، وهي أقوى رابطة من أخوة النسب، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبُّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِهِ».
إنّ مَن ينظر في حقوق الإنسان في الإسلام يجد أنّها حقوق شرعية أبدية لا تتغير ولا تتبدل مهما طال الزمن، لا يدخلها نسخ ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تبديل، لها حصانة ذاتية؛ لأنّها من لدن حكيم عليم، فالله سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، وهو سبحانه أعلم بمصالح العباد من أنفُسهم، فهي أحكام إلهيّة تكليفية، أنزل الله تعالى بها كُتُبه، وأرسل بها رُسُله، لقد رَضِي الله سبحانه وتعالى لهذه الأُمّة الإسلام ديناً وجعل خاتم الأنبياء محمّداً (صلى الله عليه وآله سلم)، وفوق ذلك كلّه فرض الله جلّ وعلا على العباد حماية هذه الحقوق ورعايتها فيما بينهم، وحرّم إهانتها من الاستغلال أو الاضطهاد أو الإهانة، من أجل أن يعيش الإنسان بأمن وطمأنينة، ويعيش في عزّ وكرامة، كرامة في الحياة، وكرامة بعد الممات، فحقوق الإنسان في الإسلام لم تقتصر على حياته فقط، فالإنسان مُكرّم حيّاً وميِّتاً، وكذلك لا تقتصر عليه في حال الصحّة، بل هو مكرم في حال الصحّة والمرض، وفي الغِنى والفقر، وفي السعة والضيق. ومن تكريم الله للإنسان أن خلقه على فطرة الإسلام الذي هو الانقياد والإذعان لله سبحانه وتعالى، فليس لأحد من الناس أن يستعبده أو يُذِلّه أو يستغله لمصالحه أو يصرف عبوديته لغير الله.
وهذه (رسالة الحقوق) نموذج متكامل للحقوق الإنسانية وبلا منازع، فكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يحدّد في (رسالة الحقوق) لكلِّ إنسان ما له من الحقّ، وما عليه من حقّ، وهذه (الرسالة) نحتاج لأن نقرأها جيِّداً، حتى نعيش في كلّ حياتنا معنى المسؤولية. وخلاصة (رسالة الحقوق) تعبّر عن أنّ الإنسان في الحياة هو إنسانٌ مسؤول، فالمسؤولية تحيط به من بين يديه ومن خلفه، وعند يمينه وشماله، وفي موقفه بين يدي ربّه.. وقد تميّز أسلوبه (عليه السلام) باستخدام الدُّعاء لبلوغ هذا الهدف، فتحوّل الدُّعاء عنده من كونه تواصلاً روحياً ووجدانياً بين الإنسان وربّه، إلى وسيلة تغيير للمفاهيم والسلوك، فلم يعد الإنسان يكتفي في الدُّعاء بالطلب من ربّه المغفرة والرحمة، والدخول إلى الجنّة والبُعد عن النار، أو بلوغ الحاجات التي يحتاجها، أو كشف الهموم التي يريد من الله أن يفرّجها له فحسب، بل صار الدُّعاء أداة تربوية وتثقيقية على المستوى الفكري والعقيدي والروحي والاجتماعي والسياسي.
وفي دعائه في «مكارم الأخلاق»، غيّر مفهوم النظر إلى الحياة، ليبيّن أنّ قيمتها بمقدار ما تكون في طاعة الله، وإلّا لا قيمة لها، ولذلك قال: «اللّهُمّ وعَمِّرني ما كان عُمري بذلَةً في طاعتِك، فإذا كان عُمري مَرتَعاً للشيطانِ، فَاقبِضني إليك قَبلَ أَن يَسبقَ مَقتُك إليَّ، أو يستَحكِمَ غَضَبُك عليَّ». ولم يكتفِ الإمام (علیه السلام) بالدُّعاء كوسيلة للتربية والتوجيه ولإيقاظ الأُمّة، بل رسم في رسالته (رسالة الحقوق) فيها للإنسان مسؤولياته في الحياة، فقد وسَّع دائرة المسؤولية، فالإنسان هو مسؤول تجاه ربّه، وهو مسؤول تجاه جوارحه؛ فللّسان حقّه، وللسمع حقّه، وللبصر حقّه، وللبطن حقّه، ومسؤول عن كلّ عمل أمر به، وكلّ فعل من أفعاله، بأن يؤدِّيه على أصوله، وهو مسؤول عمن يعيشون معه من الأقربين والأبعدين، وفي أيّ موقع، وبذلك يرى الإنسان أنّ مسؤوليته تطاول كلّ شيء في الحياة. ولم يقف الإمام زين العابدين (علیه السلام) على هذه التوجيهات نظرياً، بل شكّل من نفسه نموذجاً يُقتدى، فكان مثالاً في العلم والعبادة والخشوع بين يدي الله، وفي الحلم وكظم الغيظ، وفي الصدقة وإعانة الفقراء، حتى إنّه كان يستبشر عندما يأتيه فقير، ويقول: «مرحباً بمن جاء يحمل زادنا إلى ربّنا». وتذكر سيرته، أنّه كان يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة، ولم يعرفوه إلّا بعد ارتحاله، عندما انقطع عطاؤه عنهم.. فإنّ في سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) أكثر من عالمٍ منفتح على الله وعلى الإنسان والحياة، وأكثر من أفق منطلق بالفكر والروح والشعور والحبّ الإلهيّ والعرفان الروحي، وأكثر من مساحة مليئة بالقضايا الأخلاقية والأجواء الإنسانية والمناهج الحركية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق