• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«ووفِّقنا لأن نصِلَ أرحامِنا بالبرِّ والصِّلَة»

عمار كاظم

«ووفِّقنا لأن نصِلَ أرحامِنا بالبرِّ والصِّلَة»

الأرحام جزء من الخلايا الاجتماعية التي تتحرّك في الواقع الإنساني، لتربط علاقات الإنسان بالآخرين في دائرة التوازن المسؤول، فهم أقرب الناس إليه في قرابة الدم، ما يجعل من العاطفة التي تشدّه إليهم حالةً طبيعية، وهم الأكثر اتصالاً بحياته في ما يمكن أن تصطدم فيه المواقف والمصالح والمشاعر، الأمر الذي قد يخلق لوناً من ألوان التماس اليومي بفعل الاحتكاك الدائم، ويؤدِّي إلى إثارة المشاكل والتعقيدات في داخل هذا المجتمع الصغير المتشابك الأوضاع والعلاقات.. وهذا هو الذي جعل التخطيط الأخلاقي الإسلامي يمنح العلاقة بالأرحام وضعاً روحياً يمتص كلّ النتائج السلبية التي قد تحدث في داخل الوضع المعقّد في شبكة العلاقات، بحيث يفكّر الإنسان في النتائج الإلهيّة على مستوى صلة الأرحام، في إيجابيات المغفرة والثواب وطول العمر وسعة الرزق، أو على مستوى قطيعة الأرحام في سلبيات الغضب الإلهيّ والعقاب الأخروي، وقصر العمر وضيق الرِّزق، فلا تعود العلاقة بالأرحام سلباً أو إيجاباً، مجرّد علاقةٍ شخصيةٍ أو عائليةٍ، في ما هي العلاقات الاجتماعية العادية، بل تتحوّل إلى حالةٍ سلوكية في ما هو الخطّ الإلهيّ الذي يؤكِّد للإنسان المؤمن علاقاته بأقربائه في دائرة المسؤولية المتصلة بنتائجها بقضية المصير في الدُّنيا والآخرة.

الآيات القرآنية التي قرنت عبادة الله الواحد وتقواه بصلة الرحم كثيرة، منها ما ورد في الآية الأُولى من سورة النِّساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، ومنها ما ورد بصيغة ذي القربى. من هذا نجد أنّ صلة الرحم لها منزلةٌ كبرى وحيِّزٌ كبير في الإسلام، فعلى صعيد التشريع والأحكام مثلاً، نجد لها علاقةً بتقسيمات الإرث والمحارم والنّسب والصَّدقات، وكلٌّ منها له أحكامه المبنيّة على علاقة الأرحام بعضهم ببعض. وكما في الفقه، كذلك لموضوع الأرحام موقع كبير في التربية وبناء الشخصية المؤمنة، وفي سلّم الواجبات والحقوق المتعلّقة بالدُّنيا ووصولاً إلى الآخرة، ومَن يطَّلع على حجم ونوعية الأحاديث والآيات التي وردت في هذا المجال، يستوقفه الأمر ويسأل: لماذا أعطى الله لصلة الرحم كلَّ هذه الأهميّة؟ لماذا عزّز دعوات صلة الرحم بسلّة من المحفّزات من الثواب والأجر يحصل عليه الواصلون للرحم، وبرزمة من العقوبات لمن يقطعونه...؟!

فالواصلون للرحم بُشِّروا بالموقع الرفيع، فقد ورد في الأحاديث: «صِلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسى‏ء الأجل»، «أعجل الخير ثواباً صلة الرحم»، «إنّ المرء ليصل رحمه، وما بقي من عمره ثلاث سنين، فينسئه الله ثلاثين سنة، وإنّ الرجل ليقطع رحمه، وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيصيّره الله إلى ثلاثة أيّام». أمّا القاطعون، فيكفي أنّ القرآن يصنّفهم في خانة المفسدين في الأرض، ويجعلهم ممّن يستحقّ الطرد والإبعاد من رحمة الله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمّد/ 22-23)، وفي الحديث أيضاً: «لا يدخل الجنّة قاطع رحم». وقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له: يا رسول الله، إنّ أهل بيتي أبوا إلّا توثّباً عليَّ وقطيعةً لي وشتيمةً، فأرفضهم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذاً يرفضكم الله جميعاً». قال: كيف أصنع؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «تصل مَن قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، فإنّك إذا فعلت ذلك، كان لك من الله عليهم ظهير».

وتحدّثت سيرة الإمام زين العابدين (علیه السلام) عن ابن عمٍّ للإمام كان يؤذيه ولا يودّه، فكان الإمام (علیه السلام) إذا جنَّ الليل، يضع لثامه، ويذهب إليه ليعطيه ما يحتاج إليه من مالٍ وطعامٍ، من دون أن يعرف الرجل أنّه الإمام، فكان هذا الرجل يقول لمن يأتي إليه بالمال والطعام: أمّا أنت، فتصلني وتتصدّق عليَّ، فيما عليّ بن الحسين لا يصلني، لا جزاه الله خيراً. فلمّا توفّي الإمام (علیه السلام)، انقطعت الصِّلات التي كانت تأتيه من الإمام، فعرف حينها هذا الرجل أنّ مَن كان يؤذيه هو مَن كان يبادله بالصِّلة والعطاء.

وأخيراً، الإسلام لم يعقِّد سُبُل التواصل، حيث ورد في الحديث: «صِلوا أرحامكم ولو بالسلام»، «صلْ رحمك ولو بشربة ماء»، «أفضل ما توصل به الرحم، كفّ الأذى عنها». وصلة الرحم يمكن أن تكون بالدُّعاء لهم وبالتصدّق عنهم وبحفظ غيبتهم.

ارسال التعليق

Top