• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آثار الإحسان وثمراته

أسرة

آثار الإحسان وثمراته
    أخي المؤمن الفاضل.. للإحسان ثمرات ذُكرت في الآثار والروايات والأخبار ومنها نذكر الآتي:  1- الإحسان محبّة: قيل: "سببُ المحبّةِ الإحسان". دعاء الإمام علي (ع): "مَن كَثُرَ إحسانُهُ، أحبّهُ إخوانُه". فرُبّ علاقة صداقة أو أخوّة تنشأ من إحسان يُنبت في قلب المحسن إليه محبّةً للمُحسِن حتى وإن لم يره، فقد يدعو له في ظهر الغيب، أو يشكر له إحسانه عن طريق رسالة أو وسيط، وقد تجد مَن يؤثِّر فيه الإحسان عن طريق رسالة أو وسيط، وقد تجد مَن يؤثِّر فيه الإحسان إلى درجةٍ بحيث يقول: أنا مَدين لفُلان بحياتي، أو بنجاحي... وما إلى ذلك.   2- الإحسان ذخر: يقول الإمام علي (ع): "عليكَ بالإحسان، فإنّه أفضلُ زراعةٍ وأربَحُ بضاعَة". لأنّ المُحسِن إنّما يقدِّم من يوم العمل إلى يوم لا عملَ فيه، فإحسانه ذخيرته وادّخاره ورصيد ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم.   3- الإحسان تعظيم للمجد: وعنه (ع): "بالإحسان وتغمّد القلوب بالغُفران، يعظم المجد". أي أنّ (الإحسان) وبالتظافر مع (الغُفران) يعملان على زيادة مجد الإنسان.   4- الإحسان صفعةٌ للشيطان: قال الإمام الصادق (ع): "ما أحسنَ مؤمنٌ إلى مؤمنٍ ولا أعانه، إلا خمشَ وجه إبليس وقرّح قلبه". ذلك أنّ كل عمل صالح، أو برّ، أو إحسان، أو تواصل في الخيرات، أو تكافل إجتماعي، يشكِّل طعنة في صميم الشيطان، وصفعة قويّّة، وكسراً لظهره.   5- الإحسان ملك القلوب: عن الإمام علي (ع): "الإنسانُ عبدُ الإحسان". وقال: " ما استُعبد الكرام بمثل الإكرام". وقال: "أحسِنْ إلى مَن شِئْتَ تَكُن أميره". وقال: "أحسِنْ إلى المُسيء تملكه". وقال الشاعر: أحسِن إلى الناس تستعبد قلوبهم **** فطالما استعبدَ الإنسان إحسانُ وفي الأمثال: "يسوس المرءُ قومه بالإحسان إليهم".   6- الإحسان حياة: في الحديث: "المُحسنُ حيٌّ وإن نُقِلَ إلى منازل الأموات".   7- الإحسان أُنس: في الخبر عن الإمام علي (ع): "كلُّ مُحسنٍ مستأنس". وقال (إفلاطون): "إنّ إشراكنا في مسرّاتِنا، يزيدنا إحساساً بتلك المسرّات".   8- حصاد الإحسان الشّكر: في الأمثال: "مَن زَرَعَ المَعروف حَصَدَ الشكر".   9- الإحسان يُحقِّق معيّة الله وحُبِّه: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69). وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 128). وقال عزّ وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195).   10- جزاء الإحسان دنيويّ: قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) (النحل/ 30).   11- جزاء الإحسان أُخرويّ: قال عزّ وجلّ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس/ 26). وقال الإمام علي (ع): "أحسِنْ إلى الفُقراء والبائسين، يجزكَ الله خيراً بما فعلت".   12- جزاء الإحسان موصول: جاء في الحديث: "أحسِنُوا في عقبِ غيركُم، تُحفَظُوا في عقبكُم". وفي (كنز العمّال)، عن رسول الله (ص)، عندما سأله (سلمان بن عامر الضبي): "إنّ أبي كان يُقرئ الضّيف، ويكرم الجار، ويفي بالذِّمّة، ويعطي في النّائبة، فما ينفعه ذلك؟ قال (ص): ماتَ مُشْرِكاً؟ قلت: نعم. قال: أما إنّها لا تنفعه، لكنّها تكون في عقبه، أنّهم لن يخزوا أبداً، ولن يذلُّوا أبداً، ولن يفتقروا أبداً".   13- الإحسان زينة: قال رسول الله (ص): "زينةُ العِلْمِ الإحسان". وفي الحِكَم والأمثال: "الإحسانُ زينة للإنسان".   14- الإحسان يقطع اللِّسان: في الحِكَم والأمثال: "الإحسان يقطع اللِّسان". أي أنّ الإحسان إلى الناس يكفُّ ألسنتهم عن ذمِّ المُحسِن إليهم، وعن مقالة السوء فيه.   15- الإحسان ينجي من النهايات الوخيمة: قال رسول الله (ص): "صنائعُ المَعروفِ تَقي مصارِعَ السُّوء".   - مقولة: "إتّق شَرَّ مَن أحسنتَ إليه": مقولة: "إتّق شَرَّ مَن أحسنتَ إليه" تتردّد على ألسن البعض بطريقةٍ إيجابيةٍ أن ليس هناك مَن يستحقّ الإحسان، لأنّ مردوداته سلبية، ويستدلّ أصحاب المقولة بأمثلةٍ ونماذج فعليّة وواقعيّة عن أناس أحسِنَ إليهم فقابلوا الإحسان بالإساءة، ونحن لا ننكر ذلك أو نتغاضَ عنه، لكنّنا نريد أن نُناقش هذه المقولة ونضعها موضعها الصحيح. من الأمثلة التي يستدل بها أصحاب المقولة: 1- يقولون جاء في الأمثال: "جزاهُ جزاءَ سنمّار"! قال (الميداني): "سنمّار رجلٌ روميّ بنى قصر الخورنق بظهر الكوفة للملك (النُعمان بن امرئ القيس)، فلمّا فرغَ منه، ألقاه من أعلاه فخرّ ميِّتاً، وإنما فعل ذلك لئلا يبني مثله لغيره. فضربت العربُ به المثل لِمَن يجزي الإحسان بالإساءة". 2- ويستشهدون بعدد من أبيات الشِّعر المؤيِّدة لمقولتهم، ومنها: قال (زهير بن أبي سلمى): ومَن يجعل المعروفَ في غيرِ أهلِهِ **** يَكُنْ حمدهُ ذمّاً عليهِ ويندمِ وقال آخر: فعلنا جميلاً قابلونا بضدِّهِ **** وهذا لعُمري من فِعالِ الفواجرِ ومَن يفعل المعروفَ في غير أهلِهِ **** يُجازى كما جوزي مجيرُ أُمِّ عامرِ و(أُمّ عامر) كنية الضّبع. وقال ثالث: مَن يَصنع الخيرَ مع مَن ليسَ يعرفُهُ **** كواقدالشّمع في بيتٍ لعُميانِ! 3- ويذكرون قصّة الذي زعمَ في طريق خارجي أنّه مريض وطلب إلى صاحب فرس أن يحمله معه ليوصله إلى بلدته، ولمّا امتطى ظهر الفرس شهرَ سكِّينه عليه طالباً منه التخلِّي عن الفرس، ففعل ولكنّه قال له: لا تُخبر أحداً بما صنعتُ لئلا تقطع سبيل المعروف! والأمثلة قد تطول، والأبيات قد تكثر، وما أتينا على ذكره للتدليل والتمثيل فقط وليس للحصر.   - مناقشة المقولة: لابدّ من الإلتفات أوّلاً إلى أنّ المقولة أو المثل داعية للتوقِّي من شرِّ المحسنِ إليه وليست ناهية عن الإحسان، فحتّى لو كان هناك مَن في قلبه مرض وقد أحسنتَ إليه، فواجه إحسانك بإساءةٍ، فمثلُ هذا الخارج على السوية، والشاذّ عن القاعدة لا يُعطِّل قانون العمل بالإحسان، أي أنّ هذا الحجر لا يمنع مركبةَ الإحسان من أن تشقّ طريقها لتصل إلى الناس جميعاً، شأنّها شأن الشمس التي تُشرقُ على البرِّ والفاجر، المُستحقّ وغير المُستحق، فالشمس سخيّة لا تحجب عطاءها نوراً ودفئاً عن أحد، أي أنّها لا توزِّع بركاتها بشكل انتقائي أو انحيازي على المحسوبيّة والمنسوبيّة. وتلك هي دعوة الأحاديث والروايات التي تتحرك وتُحرِّك الباعث على الخير على أوسع نطاق، انطلاقاً من روح الإحسان وروحيّة العطاء لا من خلال الفعل وردّ الفعل، فقانون الإحسان لا يفعل بقانون الإنعكاس الشرطي، بمعنى أنّ المُحسن يضع في حسابه، وهو يُحسِن، أن إحسانه قد لا يقابل بالمثل أو بالشكر، فهو إنما يعطي لوجه الله لا يريد جزاءً ولا شكوراً، وبالتالي فإذا كان العطاء لوجهه سبحانه: تقرّباً إليه، وحُباً به، وإخلاصاً له، فالإحسان بالغٌ هدفه سواء قدّر مَن أحسِنَ إليه قيمة الإحسان أو جهلها. ثانياً: لو تساءلنا: لماذا يفعلُ بعضَ الناس كما تفعل العقرب المتجمِّدة من البرد التي أشفقَ عليها فلاح طيِّب، فأحسنَ إليها بوضعها في جيبه لينقذها من الموت، حتّى إذا دبّت الحرارة في جسمها لدغته، أو كذاك العاري الذي نسج له الحائكُ ثوباً ليستر عُريه، فلم يرَ في الكاسي سوى أنّه (مغزل)، يقول الشاعر: كَمْ نسجنا حظوظَ قومٍ بأيدينا **** فلمّا ارتدوا رأونا مَغازِل أمثال هؤلاء لا ينتقصون من قيمة الإحسان، ولا يُبدِّلون مجرى نهره النظيف، فالإحسان ولا يُعلى عليه، إنّما ينتقصون من أنفسهم وكراماتهم، لأنّهم بدلاً من أن يُقابلو التحية بمثلها، ولا نقول بأحسن منها، لأنّهم ليسوا جديرين بذلك، فإنّهم يردّون على السلام بالعدوان، وبالإساءة إلى الإحسان. إنّهم ومن خلال دراسة نفسيّة لسلوكهم المشين هذا، تبيّن أنّهم يعانون من عقدة التفضّل عليهم، ومن ازدواجيّة في التعامل مع الإحسان: فهم يحبّون الإحسان ويكرهون المُحسِن لدرجة الطَعن فيه، والتقليل من شأن إحسانه: مرّ السيد المسيح (ع) وتلاميذهُ يوماً برجلٍ تحدّث عنهم بسوءٍ وبصوتٍ مرتفع، فما أجابه السيد المسيح إلا خيراً، ولمّا سأله تلاميذه: لماذا تُجيب بالخير مَن خاطبكَ بالشّر، أجاب: "كلٌّ يعطي ما في مخزنه"! إنّ بعض هؤلاء سيِّئ وسلبي قبل الإحسان إليه، فإذا أحسِنَ إليه كان واحداً من إثنين: فإمّا أن يفعل الإحسان فيه فعله، ويُحدث في ضميره هزّة أو صحوة يعرفُ لصاحب اليد البيضاء فضله وإحسانه، فيشكر له فضله. وإما أن يزداد مرضاً وخُبثاً ودناءةً، وغالباً ما يكون هذا الصِّنف قد حمل تصورات سلبية ومُسبقة من المحسن، بحيث لا يشفع إحسانُ المُحسِن برفع تلك التصورات أو الإعتقادات السلبية الجازمة. يقول الشاعر: ما زالَ يظلمني وأرحمهُ **** حتّى بكيتُ له من الظّلمِ إنّ المشكلة، أيّها المُحسنون ويا مَن أنتم على أهبة الإحسان، وليست في الإحسان ولا في المُحسنين، بل هي في الذات السوداوية التي تأبى أن تخلع سوداويّتها، فنفوسُ هؤلاء المرضى كالأرض السّبخة حتى لو هطل عليها المطر غزيراً، فإنّها لا تستفيدُ منه بشيءٍ، لأنّها أغلقت مساماتها سلفاً فلم تعد تستقبل قطرة ماء! أمّا الإستشهادات الشعرية فهي لا تلتقي مع النظرة الإسلامية العميقة للإحسان بشيء. فعن الإمام الصادق (ع): "إصنع الخير (أو المعروف) معَ أهلِه ومع غير أهله، فإن لم يكن من أهله فأنتَ من أهله"!! ولذلك نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والأولياء والصالحين كثيراً ما يُقابلون الإساءة بالإحسان، أمّا إذا أُحسِنَ إليهم فإنّهم (يُربون) أي يزيدون ويضاعفون، ويرون الفضل للبادئ. يقول (ع) أيضاً في تفسير قوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60): "جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر. مَن صُنع إليه معروف، فعليه أن يُكافئ به، وليس المُكافأة أن تصنع كما صنعَ حتّى تُربي (تزيد)، فإن صنعتَ كما صنع كان له الفضل في الإبتداء". وعلى هذا نجد أنّ الشعراء الذين حملوا هذه النظرة يتحدّثون بغير اللغة التي تحدّث بها زملاؤهم، وهذه بعض الأمثلة: قال (الحُطيئة): مَن يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيَهُ **** لا يذهب العُرفُ بينَ اللهِ والناسِ وقال آخر: إزرعْ جميلاً ولو في غيرِ موضعهِ **** ما ضاعَ قطُّ جميلُ أينما زُرِعا وقال ثالث: لا تزهدْ الدّهرَ في عُرْفٍ بدأتَ به **** فكلُّ عبدٍ سيُجزى بالذي فَعَلا وقال رابع: وأحسِنْ فإنّ المرء لابدّ ميِّتٌ **** وإنّك مجزيٌّ بما كنتَ ساعِيا ولا يسع المقام لمزيد من الإستطراد، فحسبنا ذلك. أمّا ما فعل (النُعمانُ) بـ(سنمّار)، فإنّه يُمثِّل لوثة عقليّة تُخالط الزّعماء في الإنفراد والتفرّد والتعالي، فهم لا يشكرون الصّنيع، ولا يتمنّون المعروف، ولا يُقدِّرون الإخلاص، فمن أجل أن لا يكون هناك قصرٌ شبيهٌ بقصر أحدهم، لا يتوانى عن إلقاء المهندس أو المعمار أو صاحب الآية العمرانيّة من أعلى القصر، ليُجازي الذي أرادَ أن يُمتِّعهُ بالحياة، بأنّ يغيِّبهُ عن الحياة! لقد مات (سنمّار) وماتَ بعده (النُعمان)، والإثنان تحت التّراب، ولكنّ المثلَ السّاترَ لن يموت: "جزاهُ جزاءَ سنمّار".. لقد خلّد الإحسان ورفعه نجماً، وأدان الإساءة واعتبرها لطخة! (النّعمان) اليوم: لعنة، لطخة في جبين التأريخ، مثل للسيِّئين والمُسيئين. و(سنمّار) المُحسِن يبقى شاخصاً بإحسان (حتّى ولو بناه لقاء أجر مادِّيّ)، لأنّه أحسنَ الصُّنع، وأتقنَ البناء.. وكلٌّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ!!

ارسال التعليق

Top