• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آثار الإيمان الديني

مرتضى مطهري

آثار الإيمان الديني

◄قد اتضح من البحوث السابقة أنّ الإنسان لا يتمكن من الحياة السليمة أو ينجز عملاً مفيداً مثمراً للإنسانية والمدنية الإنسانية بلا أن تكون له فكرة وهدف وإيمان، فالإنسان الفاقد للفكرة والإيمان إمّا أن يكون بصورة موجود غارق في الأنانية بحيث لا يخرج أبداً من حيِّز مصالحه الشخصية وإمّا أن يكون بصورة موجود متردد حائر لا يعرف واجبه في الحياة والقضايا الأخلاقية والاجتماعية. فالإنسان يجابه دائماً القضايا الأخلاقية والاجتماعية ويضطر إلى إبداء ردّ فعل خاص في مقابل هذه القضايا. فالإنسان إذا  كان متصلاً بمدرسة أو عقيدة أو إيمان فإنّ واجبه واضح، وأمّا إذا لم تكن له مدرسة أو نظام يوضح له واجبه يقضي حياته مردِّداً دائماً، ويجتذب إلى هذه الجهة تارة وإلى تلك الجهة تارة أخرى. فيكون موجوداً غير متناسق. نعم، لاشك في قاعدة الالتحاق بمدرسة أو فكرة.

والذي يجب أن يكون موضع اهتمام هو أنّ الإيمان الديني الوحيد الذي يتمكن من أن يجعل الإنسان بصورة "مؤمن" واقعي، فيضع الأنانية وحب الذات تحت شعاع الإيمان والعقيدة والمذهب، ويوجد نوعاً من "التعبد" و"التسليم" عند الشخص أيضاً بحيث لا يسمح الإنسان للشك سبيلاً إلى نفسه في أقل موضوع تعرضه المدرسة. ويجعله أيضاً بصورة شيء عزيز ومحبوب وقيم، إلى حد أن تكون الحياة له من دونه تافهة ولا شي ولا معنى لها. ويدافع عنه بنوع من الغيرة والتعصب.

والنزعات الإيمانية الدينية تؤدِّي إلى أن يقوم الإنسان بجهود رغم نزعاته الطبيعية الفردية، ويضحي بوجوده وحيثيته في سبيل إيمانه أحياناً. وهذا يتيسر في حال تجد فيه فكرة الإنسان حالة قدسية، وسيادة مطلقة على وجود الإنسان. والقوَّة الدينية فقط هي التي تتمكن من أن تهب القدسية للأفكار، وتجعل حكمها نافذاً على الإنسان بقدرة تامة.

ويقوم الأشخاص أحياناً بالتضحية وترك الروح والأموال وجميع حيثياتهم لا عن طريق الفكرة والعقيدة الدينية بل تحت ضغط العقد والأحقاد وطلب الانتقام، وبالتالي ردّ الفعل الشديد أمام الشعور بالضغط والظلم، كما نرى نظائر ذلك هنا وهناك في العالم.

ولكن اختلاف الفكرة الدينية وغير الدينية هي عندما تتوسط العقيدة الدينية. وتهب الفكرة القدسية، تكون التضحيات برضا تام وبصورة طبيعية، وفرق بين أن يتم العمل عن رضا وإيمان الذي هو نوع من الاختبار. وبين العمل الذي يتم تحت تأثير العقد والضغوط الباطنية المؤلمة وهو نوع من الانفجار.

إذا  كانت نظرة الإنسان للعالم نظرة مادية صرفة وعلى أساس تحديد الواقع في المحسوسات، فعندئذٍ يشعر الإنسان في علاقته مع العالم بأنّ كلّ نوع من حب الفكرة وتعقيب الهدف الاجتماعي والإنساني بعكس الواقعيات المحسوسة.

ونتيجة النظرة الحسية للعالم هي حب الذات لا حب الفكرة، إنّ حب الفكرة إذا لم يكن على أساس النظرة للعالم والتي نتيجتها المنطقية هي الفكرة، فلا يتعدى حب الخيال. أي على الإنسان أن يصنع عالماً من خياله منفصلاً عن الواقعيات الموجودة في داخله، ويأنس بذلك، ولكن حب الفكرة إذا  كان ناتجاً من الدِّين أو المذهب، يعتمد على نوع من النظرة للعالم والتي تكون نتيجتها المنطقية نظرة للعالم تابعة للأفكار والأهداف الاجتماعية. فالإيمان الديني صلة حميمة بين الإنسان والعالم، وبعبارة أخرى هو نوع من التناسق بين الإنسان وأهداف العالم الكلية. وأما الإيمان والأهداف غير الدينية فهي نوع من الانقطاع عن العالم، وبناء عالم خيالي لنفسه، والذي لا يؤيد بأي وجه من عالم الخارج.

فالإيمان الديني لا يعين للإنسان سلسلة من التكلفات رغم رغباته الطبيعية، بل إنّه يغير صورة العالم في نظر الإنسان، ويعرض عناصر بالإضافة إلى العناصر المحسوسة في هيكل العالم، ويحول العالم الجاف البارد الميكانيكي المادي إلى عالم حيّ واعٍ ذي شعور. والإيمان الديني يغير في انطباع الإنسان عن العالم والخلقة.

يقول "وليم جيمس" الفيلسوف والعالم النفساني الأمريكي في أوائل القرن العشرين: "إنّ العالم الذي يعرض علينا فكرة دينية لم يكن ذلك العالم المادي الذي تغيرت صورته فحسب، بل توجد اشياء في هيكل ذلك العالم أكثر ممّا يمكن أن تكون لشخص مادي".

وبغض النظر عن هذه كلها فإنّ الاتجاه نحو الحقائق والواقعيات مقدَّس ويستحق العبادة في جبلة كلّ فرد من أفراد البشر، فالإنسان مركز لعدد من الرغبات والقابليات غير المادية، ولم تكن نزعات معنويّة تلقينية واكتسابية صرفة. إنّها حقيقة يؤيدها العلم.

يقول وليم جيمس: "مهما كانت دوافع رغباتنا ومحركها قد نبعت من هذا العالم، فإنّ أغلب رغباتنا أو أمنياتنا نبعت من عالم ما وراء الطبيعة، لأنّ أغلبها لا يتفق والمقايسات المادية".

ولمّا  كانت هذه الرغبات موجودة يجب أن تربَّى، وإذا لم تلاق التربية الصحيحة، ولم تستخدم بصورة صحيحة، تكون في مسير منحرف، وتؤدِّي إلى أضرار لا تتصور، كما أنّ عبادة الأصنام، عبادة الإنسان، عبادة الطبيعة وآلاف العبادات الأخرى كلها معلولة لهذا المسير، يقول "أريك فروم":

"لايوجد شخص لا يحتاج إلى دين، وعن الإطار الذي يحدّد اتجاه وموضوع ميوله، إنّه من الممكن ألا يكون مطلعاً على العقائد غير الدينية من مجموعة معتقداته باسم الدِّين الممتاز، ومن الممكن أن يفكِّر بالعكس بألا دين له، ويعتبر معنى تعلقه بالغايات غير الدينية ظاهراً  كالسيطرة والمال أو التمتع علامة للتعلق بالأمور الموافقة للمصلحة فقط. وليس الموضوع من أجل أنّ الإنسان له دين أو لا دين له، بل أي "دين له".

ومقصود هذا العالم النفساني هو أنّ الإنسان لا يستطيع العيش دونما تقديس وعبادة، وبالفرض أنّه لا يعرف الله الأحد ولا يعبده، فسوف يصنع شيئاً آخر باعتباره الحقيقة الفضلى، ويجعله موضوع إيمانه وعبادته.

إذن، لما  كان من الضرورة أن يكون للبشر فكرة وهدف وإيمان، ومن جهة أنّ الإيمان الديني هو الإيمان الوحيد الذي يتمكن من أن يجعل الإنسان تحت سيطرته الواقعية، ومن جهة أخرى فالإنسان بحكم جبلته يبحث عن شيء يقدِّسه ويعبده، فالطريق الوحيد هو أن نقوي الإيمان الديني.

فالقرآن الكريم هو أوّل كتاب يجعل الإيمان الديني بصراحة تامة:

أوّلاً: يجعله نوعاً من التناسق مع جهاز الخلقة (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (آل عمران/ 83).

ثانياً: عرفه جزءاً من جبلة الإنسان: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم/ 30).

 

آثار الإيمان وفوائده:

ومهما اتضح فإنّ آثار الإيمان الديني ممّا قلناه إلى حد، ولأجل أن نتعرف بصورة أفضل إلى الآثار الحسنة لهذا "عنصر الحياة القيم" وهذا "المُلك المعنوي" نعرض هذا البحث ونعنونه بصورة مستقلة.

يقول "تولستوي" الكاتب الروسي المفكر:

"الإيمان هو ذلك الشيء الذي يعيش الناس معه".

ويقول الحكيم ناصر خسرو العلوي مخاطباً ابنه:

"ولّيتُ وجهي عن الدُّنيا إلى الدِّين، إذ الحياة من دون الدِّين كالسجن، ولي في القلب ملك من عطاء الدِّين، يبقى خالداً – ولدي – ولم يهِن".

إنّ الإيمان الديني له آثار حسنة كثيرة سواء أكان من ناحية إيجاد البهجة والإنشراح، أم من حيث تحسين العلاقات الاجتماعية، أم من ناحية الحد أو إزالة المزعجات الضرورية الملازمة لبناء هذا العالم، والآن نوضح آثار الإيمان الديني في هذه الأقسام الثلاثة:

 

أ‌)       البهجة والانشراح:

إنّ أوّل آثار الإيمان الديني من ناحية البهجة والانشراح هو "التفاؤل" التفاؤل بالعالم والخلقة والوجود. إنّ الإيمان الديني لما كان يهب شكلاً خاصاً لفهم الإنسان عن العالم بحيث يعرف الخلقة ذات هدف، والهدف خيراً وتكاملاً وسعادة، فبالطبع يجعل نظرة الإنسان متفائلة بالنسبة إلى نظام الوجود الكلي والقوانين السائدة عليه. إنّ حالة الفرد مع الإيمان في بلد الوجود تشبه حالة شخص يعيش في بلد يعتبر قوانين ذلك البلد وأنظمته وتشكيلاته صحيحة وعادلة. ويؤمن أيضاً بصدق نية مدراء البلد الأصليين، ولابدّ أن يرى مجال السمو والرقي مهيئاً لنفسه ولجميع الأفراد الآخرين، ويعتقد – بأنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يؤدِّي إلى تأخيره هو كسله وعدم تجربته هو وأمثاله من المكلفين المسؤولين.

وفي رأي مثل هذا الشخص أنّ المسؤول عن التأخير هو نفسه، لا أنظمة البلد وتشكيلاته، وكلّ نقص موجود جاء من عدم قيامه هو وأمثاله بواجباتهم ومسؤولياتهم. وبالطبع فإنّ هذه الفكرة تحرك فيه الغيرة، وتدفعه إلى الحركة بالتفاؤل والأمل.

ولكن الشخص الذي لا إيمان له في بلد الوجود يشبه شخصاً يعيش في بلد يعتبر قوانين البلد وتشكيلاته ومؤسساته فاسدة وظالمة، ولابدّ له من قبولها، فباطن مثل هذا الشخص مليء بالعقد والحقد، ولا يفكِّر بإصلاح نفسه أبداً، بل يفكِّر أنّه لمّا كانت الأرض والسماء على غير تمهيد فسائر أنحاء الوجود ظلم وجور وخطأ، وأي أثر لصواب ذرّة مثلي؟! ومثل هذا الشخص لا يلتذ بالعالم أبداً. والعالم بالنسبة إليه كالسجن الرهيب، ولهذا يقول القرآن الكريم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه/ 124).

نعم: إنّه الإيمان الذي يوسع الحياة علينا في باطن أرواحنا، ويمنع من ضغط العوامل النفسية.

والأثر الثاني من آثار الإيمان الديني من ناحية البهجة والإنشراح هو "تنور القلب"، عندما يرى الإنسان العالم نيراً بنور الحق بحكم الإيمان الديني، فنظرة النُّور هذه تنير أجواء روحه، وتظهر بحكم السراج الذي تنور في باطنه، بعكس الشخص الذي لا إيمان له فإنّه يرى العالم تافهاً، مظلماً، فارغاً من الفهم والنظرة والنُّور.

والأثر الثالث من آثار الإيمان الديني من ناحية البهجة والانشراح هو "الأمل" بالنتيجة الطيبة للجهد الطيب.

والعالم من ناحية المنطق المادي يبقى على الحياد ومن دون اهتمام بالنسبة إلى الناس الذين يسيرون في طريق الحق أو الباطل، طريق العدل أو طريق الظلم، طريق الصواب أو طريق الخطأ ونتيجة عملهم لها صلة بشيء واحد هو "مقدار الجهد" فقط.

ولكن العالم في منطق الفرد صاحب الإيمان لم يكن على حياد ومن دون اهتمام بالنسبة إلى وجود الطرفين، ولم يكن ردّ فعل العالم واحداً أمام هذين النوعين من السعي، بل إنّ جهاز الخلقة يقوم بحماية الناس الساعين في سبيل الحق والحقيقة والصواب والعدالة وحب الخير. (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمَّد/ 7). (إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة/ 120).

الأثر الرابع من آثار الإيمان الديني من ناحية البهجة والإنشراح هو راحة البال، فالإنسان يبحث عن سعادته بالفطرة، ويغرق في السرور من تصور الوصول إلى السعادة، ويرتعش من فكرة مستقبل مشؤوم مقرون بالحرمان، ويضطرب ويخاف بشدّة، وسبب سعادة الإنسان شيئان:

1-    السعي.

2-    الثقة بظروف المحيط.

إنّ نجاح الطالب يتوقف على شيئين: سعيه وجهده، ثمّ محيط المدرسة المساعدة والملائم مع تشجيع أولياء المدرسة وترغيبهم. فالطالب المجتهد المجد إن لم يعتمد على المحيط الذي يدرس فيه، والمعلم الذي يضع له الدرجة في نهاية السنة، يبق قلقاً من جرَّاء المعاملة غير العادلة فإنّ القلق والخوف يستولي على جميع وجوده طيلة السنة.

إنّ واجب الإنسان مع نفسه واضح، فلم يحصل قلق من هذه الناحية، لأنّ القلق يظهر من الشك والتردُّد، فالإنسان لا يشك ولا يتردّد بما يتصل بنفسه، فالذي يدفع الإنسان إلى القلق والاضطراب، ولا يرى واجبه واضحاً تجاهه هو العالم.

هل إنّ العمل الجيد يجدي نفعاً؟ هل إنّ الصدق والأمانة شيء تافه؟ هل إنّ الحرمان هو نهاية جميع الجهود وإنجاز الواجبات؟ وهنا يظهر الرعب والقلق في أرهب صورة.

فالإيمان الديني يهب للإنسان باعتباره طرفاً في المعاجلة والاعتقاد والثقة بالنسبة إلى العالم الذي هو الطرف الآخر في المعاملة. ويزيل الرعب والقلق بالنسبة إلى سلوك العالم في مقابل الإنسان، ويعطيه – بدلاً من ذلك – راحة البال، ولهذا نقول: إنّ إحدى آثار الإيمان الديني هو راحة البال.

والأثر الآخر من آثار الإيمان الديني من ناحية البهجة والإنشراح هو التمتع الأكثر بعدد من اللذات التي تسمى باللذة المعنويّة. فالإنسان له لذتان: النوع الأوّل من اللذات هو ما يتعلق بأحد حواس الإنسان والذي يحصل على أثر نوع من الاتصال بين عضو من الأعضاء مع المواد الخارجية كلذة العين عن طريق النظر، والأذن عن طريق السمع، والفم عن طريق الذوق، والأصابع عن طريق اللمس.

والنوع الآخر من اللذات ما يرتبط بروح الإنسان وضميره حتى الأعماق، ولا علاقة له بأي عضو معيّن، ولا يحصل على أثر اتصال بالمادة الخارجية، كلذة الإنسان بالأإحسان والخدمة، أو المحبوبية والاحترام، أو بنجاحه أو نجاح ولده، وهي لا تتعلق بعضو معيّن، ولا تتأثر بعمل مادي ارجي بصورة مباشرة.

واللذائذ المعنويّة هي أقوى وأدوم من اللذائذ المادية. ولذا التعبد وعبادة الله بالنسبة إلى العرفاء وعشاق الحق هي من هذا القبيل من اللذائذ، فالعباد العرفاء الذين توائم عبادتهم حضور القلب والخضوع والاستغراق في العبادة يتمتعون بأعظم اللذائذ من العبادة، وقد ذكر بلغة الدِّين به "طعم الإيمان" و"حلاوة الإيمان"، إنّ للإيمان حلاوة فوق كل حلاوة وتتضاعف اللذة المعنويّة عندما تنتج الأعمال من قبيل طلب العلم، الإحسان، الخدمة، النجاح، والانتصار، من الشعور الديني، وتنجز من أجل الله، وتحسب في نطاق "العبادة".

 

ب‌) دور الإيمان في تحسين العلاقات الاجتماعية:

خلق الإنسان اجتماعياً مثل بعض الحيوانات الأخرى، ولا يتمكن الفرد لوحده من سد حاجاته، ويجب أن يكون الحياة على هيئة "شركة" بحيث يسهم الجميع في الواجبات والفوائد، ويقوم نوع من "توزيع العمل" بين الأفراد مع الفارق بين الإنسان وسائر الحيوانات الاجتماعية مثل (نحل العسل) التي توزع العمل بينها بحكم الغريزة والطبيعة. وقد سلبوا أي نوع من التمرد والتخلف، بعكس الإنسان الذي هو موجود حر ومختار، ويقوم بعمله بحرية، وينجزه باعتباره "واجباً" و"تكليفاً". وبعبارة أخرى فإنّ تلك الحيوانات كما أنّ حاجاتها اجتماعية فإنّ غرائزها الاجتماعية تحكمها بصورة جبرية أيضاً، والإنسان حاجاته اجتماعية من دون أن تتحكم فيه الغرائز، فإنّ غرائز الإنسان الاجتماعية موجودة في باطن الإنسان على صورة عدد من "الطلبات" والتي يجب أن تهذب في ظل التربية والتعليم.

والحياة الاجتماعية السليمة هي أن يحترم الأفراد قوانين بعضهم البعض وحدودهم وحقوقهم، ويعتبرون العدالة أمراً مقدَّساً، ويتعاطفوا فيما بينهم، يحب أحدهم لغيره ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ويعتمد ويثق بعضهم ببعض، وتكون كيفياتهم الروحية كفيلة بثقتهم المتبادلة ويعد كل شخص نفسه ملتزماً ومسؤولاً عن مجتمعه، ويظهر منهم التقوى والعفاف في أكثر الأماكن سرية، كما يظهر منهم في الملاء العام، ويحب كل منهم الآخر من دون أي طمع فيه، وينهضوا بوجه الظلم والجور، ولا يدعوا للظالم والمستبد مجالاً للظلم والإفساد. وأن يحترموا القيم الأخلاقية، ويتحدوا معاً كأعضاء الجسد الواحد ويتفقوا.

والشيء الذي يجعل أكثر من كل شيء آخر الحق محترماً، والعدالة مقدَّسة، والقلوب متعاطفة، والثقة متبادلة بين الأفراد، وينفذ بالتقوى والعفاف إلى أعماق وجود الإنسان، ويهب للقيم الأخلاقية الاعتبار، ويوجد جرأة الوقوف بوجه الظلم، ويوصل بين جميع الأفراد كأعضاء الجسد الواحد، ويوحدهم هو الإيمان الديني.

وإنّ إشعاعات الناس الإنسانية التي تشع كالكواكب في سماء التاريخ الإنساني المليء بالحوادث هي تلك التي تنبع من المشاعر الدينية.

 

ت‌) الحد من المزعجات:

إنّ حياة البشر كما يوجد فيها الطيبات، والحلاوات والأمنيات، والتمتعات توجد فيها الآلام، والمصائب، الاندحارات، الأضرار، المرارات، وخيبة الأمل بصور لا إرادية، ويمكن الوقاية من كثير منها أو إزالتها، وإن كان بعد جهد كبير. ومن البديهي أنّ الإنسان مكلف بمجابهة الطبيعة، يبدل المرارات بالحلاوات، ولكن بعض حوادث العالم لا يمكن الوقاية منها ولا إزالتها، فمثلاً الشيخوخة، فالإنسان – شاء أو أبى – يخطو نحو الشيخوخة، ويتجه سراج عمره نحو الانطفاء، والعجز وضعف الشيخوخة وسائر عوارضها تقطب وجه الحياة. أضف إلى ذلك فكرة الموت والفناء، وغض النظر عن الوجود، والرحيل وتسليم العالم إلى الآخرين تؤلم الإنسان بصورة أخرى.

إنّ الإيمان الديني يخلق في الإنسان قوّة الجهاد، ويجعل المرارات حلوة، فصاحب الإيمان يعلم أنّ لكل شيء في العالم حساباً، وإذا كان ردّ فعله على المرارات بالنحو المطلوب، وبالفرض أن يكون هذا غير قابل للتعويض، فهو يعوض بنحو من الأنحاء من قبل الله تعالى، فالشيخ يحكم ألا يكون هذا نهاية العمل وأضف إلى ذلك أنّه فرد مؤمن يملأ فراغه بالعبادة والاستيناس بذكر الله، فهو يكون محبوباً بحيث تكون لذة الحياة في دور الشيخوخة بالنسبة إلى عباد الله أكثر من دور الشباب، وتتغير صورة الموت في نظر الفرد المؤمن مع أنّها تظهر لنظر الفرد غير المؤمن، والموت بنظر مثل هذا الفرد لم يعد بعد عدماً وفناءً، وإنّما هو انتقال من دار فانية عابرة إلى دار باقية خالدة، ومن عالم أصغر إلى عالم أكبر، الموت انتقال من عالم العمل والزرع إلى عالم الثمر والمحصول، ولهذا فإنّ مثل هذا الفرد يزيل قلقه جرّاء الموت، ببذل السعي في أعمال الخير التي تسمى بلغة الدِّين بـ"العمل الصالح".

ومن المسلَّم القطعي لدى علماء النفس أنّ أكثر الأمراض النفسية الناتجة من مزعجات الحياة ومراراتها، تشاهد بين الأشخاص غير المتدينين، فالأشخاص المتدينون هم أكثر صيانة من هذه الأمراض بالنسبة إلى قوّة إيمانهم، ولهذا فإنّ إحدى عوارض حياة عصرنا التي ظهرت على أثر ضعف الإيمان الديني هي ازدياد المرضى والأمراض النفسية والعصبية.►

 

المصدر: كتاب أنسنة الحياة في الإسلام

ارسال التعليق

Top