• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آداب التوبة

الشيخ محمد البهاري/ ترجمة: الشيخ حبيب الكاظمي

آداب التوبة

◄اعلم أيها العزيز!.. أنّ التوبة من المعاصي أوّل طريق السالكين إلى الله تعالى، وهي رأس مال الفائزين، ومفتاح استغاثة المريدين، وأصل نجاة الناجين.

وقد وردت الآيات والأخبار الصحاح في فضل ذلك، ويكفي مدحاً لها قول أصدق الصادقين في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222).

وقول النبيّ (ص): "التاب من الذنب كمن لا ذنب له"..

وقد ذكرتْ معان عديدة للتوبة، فمنها:

المعنى الفقهي: وهو ترك المعاصي في الحال، والعزم على الترك في الاستقبال، وتدارك ما يمكن تداركه في المآل.

ومن معانيه: خلع لباس الجفاء، ثمّ نشر بساط الوفاء.

ومن معانيه: مطلق الندم.

وعلى أي حال، فلا إشكال في وجوبه عقلاً وشرعاً بلا تأمل، إذ لو علمت انحصار السعادة الحقيقية الأبدية في لقاء الله تعالى، لعلمت أنّ المحبوب عنه شقي محترقٌ بنار الفراق في دار البوار، ومن المعلوم أن من أغلظ الحجب: حجاب اتباع الشهوات وارتكاب السيئات، لكونه إعراضاً عن الله تعالى بمتابعة الشيطان والهوى، بل بعبادتهما في الواقع، لما روي من أنّه: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده".

ولعلمت أيضاً أنّ الانصراف عن طريق البُعد للوصول إلى مقام القُرب واجب، ولا يتمّ الانصراف إلّا بالأمور الثلاثة المذكورة في معنى التوبة، وقد تقرّر في محله أن مقدمة الواجب واجبة عقلاً وشرعاً، نظراً إلى الملازمة بينهما، كما أن وجوبه أيضاً فوري كما لا يخفى.. فكما أن شارب السمّ لابدّ له من إخراج السمّ من بدنه فوراً – بقيءٍ أو بغيره – وإلّا سبّب له الهلاك الدائم، فكذلك الأمر في سموم المعاصي، فلو تساهل في التوبة منها، فسيحلّ عليه الهلاك ويُختم له بالشر، وقد كانت عمدة خوف الأنبياء والأولياء من سوء الخاتمة.

فالبدار البدار!.. يا إخوان الحقيقة وخلّان الطريقة إلى التوبة الحقيقية، قبل أن تعمل سموم الذنوب في روح الإيمان بما لا ينفع بعده الاحتماء، وينقطع عنه تدابير الأطباء، ويعجز عن التأثير فيه نصح العلماء، وتكونوا من مصاديق قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (يس/ 9-10).

ثمّ اعلم أيها الأخ الأعز!.. أنك لا تخلو من المعصية في جوارحك من: الغيبة، والإيذاء، والبهتان، وخيانة البصر وغيرها من صنوف المعاصي، ولو فرض خلوك منها، فإنك لا تخلو عن الرذائل في نفسك والهمّ بها، وإن سلِمت منها فلا أقل من الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، ولو سلِمت منها أيضاً فلا أقل من الغفلة والقصور في معرفة الله وصفات جماله وجلاله وعجائب صنعه وأفعاله، ولا ريب في أن كل تلك الأمور، من موجبات النقص التي ينبغي تداركها، ولذلك وجبت التوبة في كل آنٍ من الآنات.. إذ قال أشرف المخلوقات (ص):

"إنّه ليغان على قلبي، حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة".

فإذا عرفت معنى التوبة وضرورتها، والتفت إلى أن تركها يعني الإصرار على الذنب، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يقبل التوبة الصحيحة بشروطها، ومنها غسل وسخ القلوب بالدموع، بعد اشتعال نيران الندامة فيها.

وكلما زادت نيران الندم اشتعالاً كلما تحقّق الأمل بتكفير الذنب، وبذلك تتحقق علامة الصدق في التوبة.. وعليه فلابدّ من تبديل حلاوة الشهوات بمرارة الندم، ليكون علامة على تبدل السيئات بالحسنات.. ألم تسمع قصة ذلك النبيّ من بني إسرائيل الذي سأل الله التوبة لعبدٍ أمضى حياته جاهداً في عبادة ربه، فلم يقبل الله تعالى توبته لأنّه كان يجد حلاوة المعصية – التي تاب منها – في قلبه!!.

ومن هنا قالوا إنّه لابدّ من إذابة اللحم الذي نبت على الحرام، فهو لحمٌ فاسد ومفسد للصحيح.

ولابدّ من تعلق قصده بترك كل مُحرّم، وأداء كل واجب في الحال وفي الاستقبال إلى أن يلقى ربه، كما أنّه لابدّ من تدارك ما قد فاته في سالف أيامه.

إنّ على التائب أن يستقصي في نفسه عالم ما قبل البلوغ وحين البلوغ وبعد البلوغ، لينظر إلى تصرفاته في أموال الآخرين، سواء كانت بعمد أم خطأ، مكلفاً كان أو غير مكلف.. فإذا كان حقّاً مالياً ووجد صاحبه – ولو كان وارثاً – استحلّ منه، وإلّا ردّ تلك المظلمة حين القدرة والاستطاعة.

ثمّ ينظر في الطاعات، فما ترك منها يلتزم بقضائها وكفّارتها.. ثمّ ينظر إلى الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة وما في ذمته، فيوصلها إلى مصارفها الشرعية لئلّا يبقى في حياته ما يحتاج إلى تداركٍ وتعويض، فإنّه لو مات على تلك الحالة ابتُلي بالعذاب الأليم.

وإلى جميع ما ذكر يشير قول أمير المؤمنين (ع): "الاستغفار واقع على ستة معان: أوّلها الندم على ما مضى، ثمّ العزم على ترك العود إليه أبداً، وأن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم، حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعةٌ، وأن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقّها، وأن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتّيبه بالأحزان، حتى تُلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، وأن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله".

ومن المناسب أن تكون الطاعة – في مقام التوبة – من جنس المعصية، فإذا كان عاصياً بسفر محرم فتداركُه إنما يكون بسفر الطاعة ونحو ذلك، مما يطول ذكر أمثلته..

ولابدّ أن يحقّق في نفسه شيئاً من الحزن والندامة الصادقَين، ثمّ يتوب بالطريقة التي ذكرها السيد ابن طاوس في ما رواه عن النبيّ (ص) وهي: أن يغتسل ويتوضأ، ثمّ يصلي أربع ركعات: يقرأ في كل منها (الحمد) مرة و(قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ) ثلاث مرات و(المعوذتين) مرة ثمّ يستغفر سبعين مرة، ثمّ يختم بكلمة: لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، ثمّ يقول سبع مرات:

يا عزيز!.. يا غفار!.. اغفر لي ذنوبي وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات، فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت.

فإن من قام بهذا العمل قُبلت توبته، وغُفرت ذنوبه، ورضي عنه خصماؤه يوم القيامة، ومات على الإيمان وما سلب منه الدِّين، ويُفسح في قبره ويُنوَّر فيه، ويرضى عنه أبواه، ويُغفر لأبويه ولذريته، ويوسَّع في رزقه، ويرفقُ به ملكُ الموت عند موته، ويخرج الروح من جسده بيسر وسهولة.

ومن المناسب – قبل هذا العمل – أن يُقدّم شيئاً من الصدقة ولو كانت قليلة، لأن صدقة السر تُطفىء غضب الربّ تعالى.. وأن يذهب إلى مكان خالٍ جالساً على التراب، متذكراً معاصيه واحدة بعد أخرى، مصرّحاً بزمانه ومكانه، ملتمساً من ربه المغفرة، معترفاً بالندامة.. وهكذا يحسن التفصيل في الاعتراف بجزئيات الذنوب، ببكاء وحزن.

كما أنّه من المناسب أيضاً بعد ذلك، قراءة دعاء التوبة في (الصحيفة السجادية) وأوّله: يا من لا يصفه نعت الواصفين.. وكذلك المناجاة الأولى من المناجاة الخمس عشرة.. ثمّ يُقسم على الله تعالى بحق المقرّبين لديه أن يقبل توبته، ثمّ يسأله العزم على الثبات، وليغلب على ظنه أنّ الله تعالى يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فهو يعامل عبده بمقدار حسن ظنه به، كما تدلّ عليه الروايات.

ولو خالف التوبة وعاد إلى المعصية، فعليه بالتوبة مرة بعد أخرى ولا ينبغي له أن ينتابه اليأس من العودة إلى الذنب، فإنّه أرحم من كلّ رحيم.

واعلم أنّ للإنسان ثلاث حالات في المعاصي؛ حالةٌ قبل المعصية، وحالةٌ حين المعصية، وحالةٌ بعد المعصية، ولكل من الحالات أحكام مختلفة.

أما حالة قبل ارتكاب المعصية: فعليه أن يلقّن نفسه أخبار الخوف، لعلّ ذلك يوجب له الانصراف عن المعصية، فليتصوّر ما لو هدّده مولاه بقوله: (إني لا أغفر لك أبداً).

فإنّ الرب قد جعل للعبد حدوداً من المخالفة يستحق فيها العفو.. فإذا تجاوز العبد حدّه طرده مولاه، وأخرجه من قابلية التوبة والمغفرة، إذ أنّ الرحمة – في هذه الحالة – خلاف مقتضى الحكمة، ومن المعلوم أنّ العبد عند كلّ معصية، يحتمل أنّه – بتلك المعصية – قد تجاوز الحدَّ الموجب للطرد.

وأما حاله حين ارتكاب المعصية: فإنّه لابدّ أن يشتد عندها خوفُه، لأنّ مالك الملوك – جلّ شأنه العظيم – حاضر لديه، وناظر إليه، والعبد في محضره يهتك حرمته وهو يعلم أن كلّ ما في الوجود، جنود مجنّدة بين يدي مولاه، حتى جوارحه التي عصى بها، فإنها طوع إرادته في أن يعاقب بها من يريد.

وليعلم أنّ العودة إلى التوبة، مما يُحمد عليها في أيّة مرحلة من مراحل المعصية..

وأما حاله بعد المعصية وغلبة الشهوة: فإنّه ينبغي مراجعة أخبار الرجاء، لئلا يُلقي الشيطان في روعه اليأس قائلاً: إنك عصيت عن عمدٍ والتفات، فما فائدة التوبة بعد ذلك؟..

إنّ على العبد – في هذه الحالة – أن يعلم أن كل وهمٍ وخيالٍ يمنعانه عن التوبة والتدارك إنما هو من الشيطان.. فلابدّ من تذكير نفسه بكرم المولى عزّ اسمه، وأنّ اليأس من رحمته من المعاصي الكبيرة.

فكيف لا يعود العبد إليه وهو الراحم لمن لا راحم له، وهو الذي تسمى بالوهّاب لكثرة جوده، وهو الذي عند حسن ظن عبده المؤمن.. كل هذه الأمور تدلّ بوضوح على أنّ العبد إذا لم يكن متمرداً على المولى، فإنّ الرحمة الواسعة شاملة له، إلّا أن قبُحت الرحمة في حقّه.

وقد ورد عن النبيّ (ص) قبول توبة من قتل سبعين نبيّاً ثمّ تاب إلى الله تعالى.

ثمّ اعلم أيها الأخ الأعز!.. أنّ العبد إذا تاب على التفصيل المذكور فإنّه سيكون في أوّل درجات التائبين، فلابدّ له من الوصول إلى حقيقة التوبة بعد ذلك.

إنّ حقيقة التوبة ليست هذه الألفاظ وإنما لها واقع ودرجات، شأنها شأن جميع الدرجات الأخلاقية، التي لها حقائق لابدّ من استيعابها، وهي مما لا يمسّه إلّا المطهرون.

فهذا آدم (ع) قال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (الأعراف/ 23)، وهذا نبيّ الله أيوب (ع): (نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء/ 83). ونحن نكرّر ما قالاه، ولكن كم من الفرق بين الأمرين!!

إنّ استيعاب حقائق كلامهم – عليهم السلام – ودقائق إشاراتهم، يفوق ما يدور بيننا من سؤال وجواب، ورسالتنا هذه لا تحتمل نفاصيل هذا الأمر.. اللّهمّ اهدنا فيمن هديت.►

 

المصدر: كتاب تذكرة المتقين

ارسال التعليق

Top