• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أئمة الشكر في القرآن الكريم

مركز نون للترجمة والتأليف

أئمة الشكر في القرآن الكريم

إنّ  المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن الله تعالى صرح بالثناء على صفوة خلقة أولي العزم من الرسل(ع) بأنهم كانوا من الشاكرين، فوصف نبيه نوحاً (ع) بأنّه (كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء/ 2). ونعت خليله إبراهيم (ع) بأنه كان: (شَاكِرًا لأنْعُمِهِ) (النحل/ 121). وقال لكلٍّ من الكليم موسى والمصطفى محمد(ص): (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف/ 144)، وقد كانا.

وهذا النبي الشاكر، والأواب الذاكر: سليمان بن داود (ع)، والذي حفظ القرآن له أكثر من موقف عبّر فيه عن شكره لنعم ربه، وبيّن أنّ فرحة اكتمال النعمة، وتمام الأمنية لم تُلهيه عن اللهج بالاعتراف بها لمسديها، وشكره عليها، استوقفته تلك النملة حين نذارتها لقومها: (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (18-19). تأمل كيف لم تشغله تلك النعمة عن التوجّه إلى من أنعم عليه بها، بل حرك فيه هذا المشهد الرغبة في الشكر لمستحقه، فهو الذي علّمه ماعلّمه، ويتكرر مشهد الشكر عند هذا النبي الكريم، لما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده. فيقول: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل/ 40).

إنه حال الشاكرين، فسليمان(ع) لم تشغله- هذه الآية العظيمة، وهي: حضور عرش بلقيس بسرعةٍ هي أقل من طرف العين- عن شكر من أنعم عليه بذلك، بل لهج بالثناء والحمد الله تعالى. فإذا كان هذا حال أنبياء الله تعالى ورسله، فغيرهم أحوج إلى أن يكون. الحمد والشكر الله. شعاراً لهم ودثاراً، فإن الأمر كما قال مولانا أمير المؤمنين (ع): "النعمة موصولة بالشكر، والشكر موصول بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله سبحانه حتى ينقطع الشكر من الشاكر".

وفي مقدمة الشاكرين وإمامهم، سيد البشر محمد (ص)، وذلك لأنه أتقى الخلق، وأعرفهم بحق خالقه، وأشكرهم له. ويظهر ذلك جلياً من خلال النظر في حاله وسيرته مع أهل بيته (ع)، وأزواجه وأصحابه، وعامة من رآه أو أتاه. روي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) عن أبيه، عن آباءه، عن الحسين بن علي (ع): -في حادثة طويلة ومفصلة- عن أمير المؤمنين (ع) في فضل رسول الله (ص): "إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدة البكاء، وقد أمنه الله عّز وجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشّع لربه ببكائه، ويكون إماماً لمن اقتدى به، وقد قام (ص) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عز وجل: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 2). بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يارسول الله أليس الله عزّ وجلّ قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبداً شكوراً".

لوكل جارحة مني لها لغه تثني عليك بما أوليت من حسن لكان ما زاد شكري إذ شكرت به إليك أبلغ في الإحساس والمنن

أما الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فإنهم هم الذين سيشكرون من ربّهم في الآخرة بالأجر الذي سيظلّون أبداً يحمدونه من أجله. عندما يقول لهم سبحانه بعد أن يستقرّوا في نعيمهم: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) (الإنسان/ 22). ويستأنف الشكر لهم من الله بسخاء عطاءه جلّ شأنه: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر/ 34-35).

 

المصدر: كتاب المبصرون

ارسال التعليق

Top