إذا تناولنا بالتحليل أدب القرآن الكريم فإنّنا نجده لا يحرك ساكن الهوى، ولا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنُشدان الحقّ وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبداً. فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعة إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحيّر العقول، فيلقن نور معرفة الصانع.. ويبيّن آياته في كلّ شيء.
ويشير "بديع الزمان سعيد النورسي" إلى نقطة ذكية، ربما تبدو غير مسبوقة، وهي أثر كلّ من الأدبين القرآني والغربي في النفس الإنسانية، فالأدب الغربي، لأنّه قاصر وحسي، ويخاطب الغريزة أكثر ما يخاطب الروح والنفس والوجدان، فإنّ ما يخلفه من حزن يورث الكآبة والهم والألم، أما أدب القرآن فإنّه يمنح صاحبهُ حزناً شفافاً سامياً، يرقى بالروح إلى المثال والصفاء والنقاء، ويوضح النورسي الفارق بين الحزنين في هذا الأداء الراقي الذي تبسطه كلماته التالية:
الأدبان "الغربي وأدب القرآن".. كلاهما يورث حزناً مؤثراً، إلّا أنّهما لا يتشابهان.
فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ عن فقدان الأحباب، وفقدان المالك، ولا يقدر على منح حزن سام رفيع.
إذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملؤه بالآلام والهموم، حتى يغدو العالم مليئاً بالأحزان، ويلقي الإنسان وسط أجانب وغرباء دون أن يكون له حام ولا مالك! فيظل في مأتمه الدائم.. وهكذا تطفأ أمامه الآمال.
- أما أدب القرآن الكريم:
فإنّه يمنح حزناً سامياً علوياً، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم.
ينظر إلى الكائنات؛ على أنّها صنعة إلهية، رحيمة بصيرة بدلاً من طبيعة عمياء، بل لا يذكرها أصلاً وإنما يبيّن القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلاً من قوة عمياء.
فلا تلبس الكائنات صورة مأتم موحش، بل تتحول – أمام ناظريه – إلى جماعة متحابة، إذ في كلّ زاوية تجاوب، وفي كلّ جانب تحابب، وفي كلّ ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.. هذا هو شأن الحزن العاشقي. وسط هذا المجلس يستلهم الإنسان شعوراً سامياً، لا حزناً يضيق منه الصدر، ولا يتوقف الأمر على إحساس الحزن الذي يخلفه كلّ من الأدبين، فهناك أيضاً أثر للشوق والفرح.. ولكن أي شوق، وأي فرح؟ يقول "النورسي": الأدبان كلاهما يعطيان شوقاً وفرحاً، فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون أن يمنح الروح شيئاً من الفرح والسرور.
بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به إلى المعالي.
- الإعجاز ولغة العصر:
وقد يرى بعض الباحثين أنّ المقارنة بين الأدبين الغربي والقرآني غير ذات صلة بموضوع الإعجاز القرآني، ولكن ذكاء "النورسي" يذهب بعيداً حين يؤصل لمفهوم الإعجاز بما يتلاءم مع لغة الواقع والعصر، فالأدب بصفة عامة تعبير، ولكن التعبير القرآني يختلف عن أي تعبير آخر، سواء في الماضي البعيد؛ حيث نزل القرآن في بيئة تعلم جيِّداً أنّ الأدب قيمة تعبيرية، ذات تأثير على الناس.. وفي هذه البيئة وصل تأثير التعبير الأدبي إلى حد أن تولم القبيلة العربية حين ينبغ فيها شاعر، وتتيه على بقية القبائل لشاعرها النابغة وخطيبها المفوه، وحين ينزل القرآن الكريم متحدياً ومعجزاً في مجال التعبير فإنّ الأمر يعني أشياء كثيرة.
وكذلك الأمر في البيئة الغربية التي هي أقرب إلى بيئة "بديع الزمان النورسي"، حيث يهيمن التعبير الأدبي الغربي من قصص وروايات وأشعار ومسرح وغيره على الذائقة الأدبية والوجدانية هناك، ويجد مساحة اهتمام غير مسبوقة لدى مَن يقرؤون ويكتبون، وهنا يكون للمقارنة بين التعبير القرآني وأدبه من ناحية وبين التعبير الأدبي الغربي المهيمن والمسيطر من ناحية أخرى ضرورة كبرى، تكشف عن إعجاز القرآن من الناحية المعنوية، بعد أن أخفقت عملية ترجمته إلى لغة أخرى غير اللغة العربية؛ حيث صار المتاح عملياً هو ترجمة المعاني، وهي ترجمة تختلف من شخص إلى آخر، ولا تستوعب معطيات اللغة العربية ودلالاتها مهما كانت براعة المترجم، مما يؤكد إعجاز القرآن الكريم، وهو ما أشار إليه "النورسي" في مفتتح البحث.
وقد تناول "النورسي" قضية الإعجاز في معظم "رسائل النور" ومجلداتها الضخمة، وقد قصر واحداً منها على قضية الإعجاز، وإن كان يسمي بعض عمله فيه تفسيراً لآيات، وهو كلام صحيح إلى حد ما، ولكنه يأتي في إطار القضية الكبرى وهي إعجاز القرآن الكريم.
- مثال من سورة الفاتحة:
لقد خصص كتابه أو واحداً من مجلدات "رسائل النور" واسمه "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"، ليتناول مجموعة كبيرة من الآيات، يطرح من خلال تفسيرها وما تحمله من أبعاد دلالية ومعنوية قد لا يراها كثير من الناس صوراً من إعجاز التعبير القرآني، مع تركيزه على قضية النظم، كما عرفت لدى الإمام "عبدالقاهر الجرجاني"، ويضرب مثالاً على ذلك من خلال سورة الفاتحة، فيقول: "اعلم أنّ نظم دُر القرآن ليس بخيط واحد بل النظم – في كثير – نقوش تحصل من نسج خطوط نسب متفاوتة قُرباً وبُعداً، ظهوراً وخفاءً. لأنّ أساس الإعجاز بعد الإيجاز هذا النقش، ففي آيات سورة الفاتحة، مثلاً:
(صِراط الذين أنعَمْتَ عليهِم) يناسب: (الحمدُ للهِ) لأنّ النعمة قرينة الحمد..
(ربّ العالمين) لأنّ كمال التربية بترادف النعم...
(الرَّحمن الرحيم) لأنّ المنعم عليهم – أعني الأنبياء والشهداء والصالحين – رحمة للعالمين، ومثال ظاهر للرحمة..
(مالِكِ يَوم الدِّين) لأنّ الدين هو النعمة الكاملة..
(نَعْبُدُ) لأنّهم الأئمة.. "يقصد الأئمة في العبادة".
(نَستَعينُ) لأنّهم الموفقون..
(اهدِنا) لأنّهم الأسوة بسر (أولَئِكَ الذين هَدَى اللهُ فبِهُدَاهُمُ اقْتَدهْ) (سورة الأنعام).
(الصراط المُستقيم) لظهور انحسار الطريق المستقيم في مسلكهم، هذا مثال لك.. فقس عليه.
· أستاذ الأدب والنقد
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق