من روائع الأفلام الوثائقية في 2009، شريط مفعم بالعجائب عن الدماغ، عنوانه: "جسمي، هذا البطل: الدماع". لا أستطيع أن أحرم غير الملمّين بالفرنسية متعة التفكر في بدائع الخلق. وبعض العلومات العلمية في هذا الوثائقي، يدفع المرء إلى القول بإستغراب: "يعني يعني أدمغتنا تضحك من ذقوننا؟". ولا أخفي شيئاً، فقد كدت أقول لدماغي: "يا أنت يا أنا في هذه الجمجمة، فقد صرت أخاف ألا عيبك!". بادئ ذي بدء، بارك الله في هذا الشريط، فقد أصبحت أكثر اعتداداً بنفسي، عندما أقف كسير الخاطر، أو أجلس، أمام معالجات البيانات السريعة. فالحمد لله على أنّ الدماغ يعالج مئة تريليون (مئة ألف مليار) من البيانات في الثانية. أي أنّه يجري هذا القدر من العمليات في ثانية. لكن هذه المعلومة الطيبة، نزلت عليَّ كسطل ماء مثلّج، وعلى القارئ أن يسأل نفسه: ما هو مقدار ما تعلمه من جبال المعلومات أو البيانات أو العمليات التي يجريها جناب المخ في ثانية، في كل ثانية. أنا شخصياً أعرف سلَّة متواضعة: حزمة نحو وصرف، تشكيلة آداب، حفنة موسيقى، وبضع فواتير. البقيّة يعرفها، بعد الله، الدماغ. وكيف تثق بدماغك، إذا عرفت أن قدراته تتضاعف عشر مرات أثناء النوم؟ عليك عندما تستيقظ أن تخاطبه قائلاً: "بصراحة، قل، شو عملت من وراي؟". - أسرار الفرار: للهروب من الخطر قصة عجيبة: حالة طوارئ قصوى. مركز السيطرة والمراقبة في الدماغ، مكوَّن من قطعتين قُطر كل واحدة 2.5 سم. هو الذي يقرر ردّ الفعل بالمقاومة أو الفرار. ردُّ الفعل هذا كامن في مورّثاتنا. وهو يتلقّى البيانات من الخارج. في الحالات العادية يرسل البيانات إلى مركز التحليل. أمّا في الطوارئ العاجلة، فهو يرسلها إلى مركزين مجاورين صغيرين، هما مركز الخطر. وفي لمح البصر يُصدر ردُّ الفعل تلقائياً الأمر لانطلاق إفراز الأدرينالين، وهو الدافع والمحرِّك القوي. فيرتفع نبض القلب ويتسارع، وينقطع الدم مؤقتاً عن مواضع غير ضرورية في تلك اللحظة، مثل الهضم، ليتدفق بقوة أكبر نحو العضلات الضرورية للدفع والركض. وهكذا تحصل العضلات على المزيد من الدم والأُكسجين. وليس من يعدو في الرياضة البدنية، كَمَن يعدو وخلفه ذئب يلاحقه! أغرب من ذلك أنَّ الدماغ في حالات الخطر القصوى، يُبطئ الزمن، في سبيل اتخاذ القرار الصائب. وقد أجريت هذه التجربة على فتاة شُدت بحبل إلى رافعة شاهقة، وقد أعدّوا لها أرقاماً تتغيَّر بسرعة، وعندما ألقي بها من حالق، تذكرت الأرقام. في حين لم تستطع تذكُّر أخرى، وهي جالسة في هدوء. الدليل الآخر، هو أنّ الدماغ يرى الصور بمعدّل ثلاثين في الثانية، وفي حالة الخطر يرى أكثر بكثير في الثانية، وكأنّ الزمن تباطأ! - الدماغ هو الذي يأكل: ما من قرار إلّا ويصدر عن الدماغ، حتى عندما نتوهّم أننا نختار ما نأكل. ثَمَّة مأكولات قد تجعلنا نمرض في الحالات العادية. ولكن عند شُح الغذاء يمسك الدماغ بزمام الأمور. كتلة أنسجة في حجم البندقة تحكم رغبتنا في الأكل. وعند نقص أي عنصر يتصرّف الدماغ. ولا أزال أذكر أنني حين كنت طفلاً، رأيت إحدى جاراتنا وكانت حبلَى، وهي تلحس قطعة مبللة من الطفّال (الطين المائل إلى الخضرة). بعد سنين أدركت أن جسمها كان في حاجة إلى الكالسيوم. أحد البحّارة توقّف زورقه المطاطي عن العمل في موقع ناءٍ وسط المحيط الأطلسي. كان السمك وفيراً من حوله. وكان يظن أنّ السمك غني بالبروتين فقط. أصبح يأكل كل الأجزاء التي كان يتقزز منها: جلد السمك يحتوي على فيتامين (B). أشواكه غنية بالكالسيوم والفوسفور. في العينين الماء الزلال. وفي الكبد A+B. زيت الكبد فيه فيتامين (D) والأحماض الدهنية Omega 3. وفي الأمعاء والمعدة A+D. وفي بيضه C+B. ظل حيّاً 76 يوماً وأنقذوه. منذ اليوم الثامن عشر صار يأكل العينين بنهم عجيب (الماء). الدماغ أصدر أمره بقبول ما كان يعافه. وهذه الدوافع هي التي جعلت أسلافنا البعيدين يتناولون ما لم يجرّبوه، وما لم يكن يروقهم. - لعبة الفلفل: للدماغ أُعجوبة ظريفة مع الفلفل الحادّ اللاذع. بسبب مادة كيميائية حارقة في الفم وما بعده! ومع ذلك نأكله ولا تقربه الحيوانات، لأن أمخاخها غير أدمغتنا. وفي الفلفلة اللاذعة الحادّة أربعة أضعاف ما في البرتقال من فيتامين (C) (ج). والحل؟ عندما يشعر الدماغ بذلك الألم، يأمر بإفراز مادّة الأندروفين، وهذه مهدّئة مسكّنة، تبعث إحساساً باللذة. وتنتقل هذه البيانات إلى مركز التعلُّم في الدماغ، فيختزن ويحفظ أنّ الفلفل، رغم مساوئه، غني بالفيتامين (C) وباعث على الاستمتاع! وكذلك الأمر بالنسبة إلى البصل والثوم. - عندما يقتصد الدماغ: شاب فرنسي ذهب ليستكشف مغارة. ابتعد كثيراً من المدخل. ووجد نفسه في متاهة لا مخلّص منها. لم يكن لديه أكل، ولم يجد في المغارة غير الماء. بعد أيام عدّة تدخلت منطقة اللاوعي في الدماغ، وأخذت في تغيير نظام الجسم بكامله. كيف يمكن الاستمرار في عمل الجسم بمعدة خاوية؟ لا تقدر على هذا أيّة آلة. وقد تكوّن هذا الجزء من الدماغ لدى الحيوانات، في عصر الدناصير، قبل الثدييات. إنّه الجزء المبرمج للتغلب على الجوع. ثَمَّة منطقتان أو ثلاث من "تحت المهاد" تسمَّى أيضاً: الوطاء، وهي المنطقة المركزية من الدماغ، وتنظّم طريقة التغذية والجوع، وتدفعنا إلى أكل أيّ شيء تجنّباً للموت. بحث الشاب المستكشف على أكل أي شيء، أفرز الدماغ هورموناً نادراً ولكنه مهمٌّ جدّاً، يجعل الإنسان متوثباً، ويقوّي العضلات، ويدفعه إلى أن يكون صياداً جيِّداً. ويقوّي حتى القدرة على حلّ المشكلات. ولكنه لم يجد شيئاً يُؤكل على الإطلاق، فسجّل وصيته على شريط. في تلك الحالة تدخل الدماغ مرة أخرى. قرّر إبطاء النظام بكامله. بدأت الخلايا الجديدة تستهلك طاقة أقل. بل بدأت الخلايا تتكوّن بصورة أبطأ. وكذلك الشعر والأظفار، التي لا توجد حاجة ماسة إليها مؤقتاً. استنتج العلماء من هذه الظاهرة، أن خفض نسبة السعرات الحرارية يطيل العمر. ومَن يتناول 1000 سعرة يطل عمره أكثر ممّن يتناول 4000. ويصبح القلب شاباً، ويؤجل الشيخوخة. مرّة أخرى تدخل الدماغ بإصدار أمر بالغ الخطورة: أمر بإفراز مواد كيميائية تجعل الجسم يتغذّى على نفسه. يأكل نفسه ليبقَى على قيد الحياة. تلك المواد تحلّل دهون الجسم. وقد صدر الأمر إلى الكبد. ثمّ انقضّت المواد على العضلات، وهي المصدر الأخير للطاقة. عند الشخص البدين نسبياً، يختزن الجسم بين 130 و160 ألف سعرة حرارية على هيئة شحوم. بينها 54 ألفاً فقط مخزنة في العضلات. ونصف هذا المقدار فقط قادر على إنتاج الطاقة، لأنّ الجسم في حاجة إلى النصف الآخر للبقاء على قيد الحياة. وظل الدماغ يبحث عن مكامن الدهون، حتى في القلب نفسه. ونجحت مخططات الدماغ، فبعد خمسة وثلاثين يوماً من المعاناة، عثر المنقذون على الرجل. برافو للدماغ. ويستحق أحرّ القُبلات بل يستحق أن يتّخذه المرء صديقاً عزيزاً مدى الحياة!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
ladydodo50
ذكرني الموضوع بوصية النبي صلى الله عليه و سلم {استعن بالله ولا تعجز} جزاك الله خيرا
ميزان
إن أول رسول جعله الله للإنسان قبل جميع الأنبياء و الرسل هو العقل المركب داخل الإنسان