• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أصل القيم في المجتمع المسلم

د. سعيد مبارك

أصل القيم في المجتمع المسلم

◄القرآن الكريم، كتاب الإسلام أنزله ربّ العزة منهج حياة شاملاً لجميع أوجه النشاط الإنساني في كلّ المجالات فربى به النبيّ (ص) جيلاً من المؤمنين فنقلهم في جيل واحد نقلة هائلة من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وأقام على أساس مبادئه وقيمه مجتمعاً تقررت فيه لأوّل مرة في تاريخ البشرية كرامة الإنسان بوصفه إنساناً فيه نفحة من روح الله، وأنشأ به حضارة ملأت الدنيا بالهدى والنور وكون به أمة كانت خير أمة أخرجت للناس.

    ولم تحدث هذه النقلة في حياة المجتمع المسلم الأوّل إلّا على أساس من القيم الإسلامية الأصيلة التي بنيت على وضوح رؤية وتصور، إنّ التخبط الذي عاشته الإنسانية في تصور الوجود والكون كله حسم في الفكر الإسلامي بتقسيم العالم إلى قسمين عالم الغيب وعالم الشهادة تبع هذا التقسيم تقسيم المنهج من حيث مصدر المعرفة فالغيبيات مصدرها الوحي والوحي فقط وليس للإنسان في هذا الجانب إلّا التلقي واتقان الفهم، أما العالم الثاني (عالم الشهادة) بما فيه من مخلوقات فللعقل فيه دور الملاحظة والمشاهد والتجارب للتعرف على طبيعته وهذا التقسيم للعالم، الذي أوجد بالضرورة هذين المنهجين للوصول إلى المعرفة الحقيقية أراح الأمّة المسلمة وأنجاها من التخبط الذي عاشته وتعيشه الإنسانية الضالة في منهجها حيث أنها لا تزال تبحث كثيراً من الأمور الغيبية بمنهج عالم الشهادة (منهج التجريب) وهذا يكفي للدلالة على الأخطاء الحتمية في النتائج ما دام المنهج من البداية خاطئاً.

    إنّ التقسيم الإسلامي لمنهج المعرفة أبان الطريق ويسره ولابدّ من التنبيه هنا إلى ضرورة المنهجين معاً لبناء الحياة الإنسانية فليس منهج التلقي من الوحي كافياً للجانبين (عالم الغيب وعالم الشهادة) وليس منهج التجريب والبحث العلمي كافياً للجانبين أيضاً فلابدّ من التمسك بكلا المنهجين للوصول إلى النتائج الصحيحة.

    وإنّ النتائج الباهرة التي حققها المسلمون في قرون حضارتهم الأولى ثمار عاجلة لذلك التطبيق الرشيد لمنهج البحث العلمي المهتدي بنور الله والشامل لكل جوانب الوجود والملتزم بالتخصص وعدم الخلط في أساليب البحث. كما أنّ التخلف الذي ألمَّ بالمسلمين والركود الذي عاشره بعد تلك النهضة المبكرة نتيجة لترك جانب البحث العلمي الذي هو جزء رئيس من المنهج الإسلامي الأصيل.

 

    من تحديد المنهج نستطيع أن نقول إن قيم المجتمع المسلم قيم أصيلة مصدرها القرآن والسنة تتصف بالثبات لثبات مصدرها فهي ليست أخلاق نفعية من صنع البشر كما أنّها ليست مثالية من خيالات المتفلسفين الذين حلق بهم الخيال وأبعدهم عن واقع البشرية والإنسانية إنها من عند العليم الخبير الذي خلق الإنسان ويعلم السبل التي فيها نجاحه في الدنيا والآخرة.

    وما دام الأمر كذلك فإنّ القيم الإسلامية ليست مجالاً للتبديل والتغير فيها بمعنى أنّه ليس من حق الإنسان أن يستبدلها بغيرها، وما نلاحظه من تغير واقع في المجتمعات يعتبر مخالفة لتلك القيم وبعداً عنها وعدم الالتزام بمعياريتها.

    والبحث في موضوع القيم في المجتمعات الإسلامية ينبغي أن ينطلق من قاعدة أساسية هي أنّ هذه القيم الأصيلة المستمدة من الوحي هي معايير ثابتة غير قابلة للاستبدال، وأنّ البحث في واقع المجتمعات الإسلامية ينبغي أن يتجه لإيجاد سبل العودة للتطابق مع قيم الإسلام لتؤدي هذه القيم إحدى وظائفها الأساسية (المعيارية) فكل بعد عن قيم الإسلام هو بعد وانحراف بالمجتمعات المسلمة ودفع لها إلى الهلاك الذي حذرها الله منه عند عدم تمسكها بدينها. هذا الدين الذي جمع كلّ القيم التي توجه كلّ النشاط الإنساني في جميع المجالات لتحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، وذلك الاستخلاف لا يتحقق إلّا بعمارتها وفق ما أراد الله ولا ضابط لذلك إلّا ما جاء عن الله وترك الأهواء والرغبات التي تجر للانحراف عن ذلك المنهج السوي.

    ويمكن القول إن ما زعمه من قال بأنّ الفرد هو صانع القيم لأنها عبارة عن المشاعر الفردية الشخصية الخاصة بالأفراد، نقول إنّ هذا لا يستقيم مع منهج الله حيث أنّ الله أمر بمخالفة هوى النفس وعدم الانصياع لرغباتها وجعل مخالفة النفس قيمة معيارية يعطي من يرتقي إلى تحقيقها الجزاء الأوفى كما قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41)، وكذلك بالنسبة لمقولة أنّ المجتمع هو صانع القيم باختصار يقال فيها: إن قيم المجتمعات الضالة عن هداية الوحي كانت موضوع الرسالات السماوية ولم يرسل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام. إلا لتغيير تلك القيم الضالة واستبدالها بالهداية الإلهية فكل رسول من رسل الله كان يجابه قيم المجتمعات ويعلن الحرب عليها ويستمر في دعوته إلى أن يحقق الغاية من رسالته وهي إقامة القيم السماوية مكان القيم الأرضية أو يهلك دون ذلك.

    وعندما ننفي أن يكون المجتمع أو الفرد مصدراً للقيم ينبغي التنبيه إلى أن ذلك ليس إنكاراً للدور الكبير الذي يقوم به المجتمع في التأثير الواضح والجلي على الأفكار والثقافات بشكل عام وما يمارسه العقل الجمعي من تأثير على قيم المجتمعات أياً كان دينها أو فكرها أو انتماؤها ولكن الذي ننفيه ونؤكد عليه هنا، إنّ هذه القيم التي مصدرها المجتمع فقط والمنبت الصلة عن الوحي الإلهي لا يمكن أن تكون قيماً أصيلة مهما تعارف عليها المجتمع أو تطابق معها في سلوكه ما لم تكن مستمدة من هدى الدين الصحيح أو وفق الفطرة الإنسانية السليمة من الانحراف.

    كما أننا لا ننفي تأثير الفرد في القيم لأنّ النفس الإنسانية بما فيها من عمليات نفسية متفاعلة باستمرار بدأً من التأثر بما حولها ووصولاً إلى الشروع في الفعل والاستجابة للمؤثرات الخارجية لا يمكن إغفال أثرها فحقيقة السلوك الإنساني عموماً هو من هذه الاستجابات الفردية للمؤثرات المختلفة ولا يمكن إبطال غرائز الفرد وفطرته بحجة أنّ المجتمع ينظم تلك الغرائز والدوافع، فالمجتمع فعلاً يمارس نوعاً من التنظيم للغرائز الفردية تواجه فشلاً ذريعاً في استقرارها، للتصادم الفطري بين نظمها وما أودعه الله في النفس الإنسانية فتأثر القيم بما في النفس الإنسانية أمر لا يمكن تجاهله أو إغفاله، لكن لا يمكن اعتبار هذه الغرائز والدوافع الفطرية الإنسانية قيماً اجتماعية نهائية لا يمكن التدخل فيها أو ضبطها وإلا فما الفرق بين الإنسان والحيوان في هذا.

    فلا يمكن بحال أن تكون الدوافع الفردية مصدراً مطلقاً أصيلاً للقيم لما نلاحظه من ضوابط وموجهات تحكم الأفراد في تصرفاتهم وتحد من سيطرة الغريزة والدافع الفطري وتوجهها لمصلحة الفرد والمجتمع مهما اختلفت المجتمعات في أشكالها وتوجهاتها العقدية والفكرية.►

 

  المصدر: كتاب التلفزيون والتغير الاجتماعي في الدول النامية

ارسال التعليق

Top