بما أنّ العالَم أصبح كالقرية الصغيرة، والفردُ تتناوشه الأفكار المتضادة والمختلفة من كلّ ناحية، والتي قد تصده عن دينه، أو تشوش عليه عقيدته، فوجب التسلح بالثقافة الدينية؛ ليكونوا على بصيرة من أمرهم، ويواجهوا هذه الأفكار بعقول واعية؛ لذا فإنّ غرس الثقافة الدينية في مرحلة الطفولة يؤثر تأثيراً بالغاً في تقويم سلوك الطفل، وحسن استقامته في المستقبل، فينشأ نشأة سليمة، باراً بوالديه، وعضواً فعّالاً في المجتمع.
وذلك بأن نحب ديننا أوّلاً – لأنّ الطفل يرى بعيون والديه أو مربيه – ثمّ نراعي ظروف الطفل، ومشاعره، واحتياجاته، وإمكاناته في كلِّ مرحلة عمرية، حتى يصبح – بعون الله – مسلماً سوياً نافعاً لنفسه وأهله ومجتمعه ودينه، ولنتذكر جيّداً أنّ التربية النفسية للطفل تعتمد على أنّه: عندما يعيش في ظل النقد المستمر، فإنّه يتعلّم أن يُدين الآخرين، وعندما يعيش في ظل الأمن، فإنّه يتعلّم أن يجد الثقة في نفسه، وعندما يعيش في ظل العداوة، فإنّه يتعلّم الهجوم، وعندما يعيش في ظل من يتقبلونه، فإنّه يتعلّم الحب، وعندما يعيش في ظل الخوف، فإنّه يتعلّم ترقب الشر، وعندما يعيش في ظل الاعتراف به، فإنّه يتعلّم أن يكون له هدف، وعندما يعيش في ظل الشفقة الزائدة عليه، فإنّه يتعلّم أن يتحسر على نفسه، وعندما يعيش في ظل التأييد له، فإنّه يتعلّم أن يحب نفسه، وعندما يعيش في ظل الغيرة الزائدة، فإنّه يتعلّم الشعور بالإثم، وعندما يعيش في ظل الصداقة، فإنّه يتعلّم أنّ العالم مكانٌ جميلٌ.
وإذا كان الحبُّ شيئاً من خلق الله سبحانه، وهو الذي أودعه أمراً يعسر على الخلائق كلّها – إنسيّها ووحشيِّها، جامدها ومتحرّكها، قويّها وضعيفها، عاقلها وغير العاقل منها – أن تعيش بغيره، وأن يكون ائتلاف بينها – المتماثل والمتشابه، والمتنافر والمختلف، المتقارب والمتباعد – إلّا به، وهو الوشيجة الخفية، التي تجمع، وانقطاعُها، أو ضعفُها، أو ذهابُها، يفرق ويبدّد ويباعد: إنّه السر العجيب الذي أقدره الله على مثل ذلك التأليف والجمع، وبدونه لا يكون شيء منه، فهل يكون حسناً ممن وهبهم الله العقل الذي يقدرهم على تلقي الخطاب الشرعي، وفهم فحواه، ليحملوه تكليفاً، على مقتضى الطاعة والإخبات، والإذعان المطلق، والتسليم الخالص – أن يقرؤوا قول الله سبحانه: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 62-63)، فإذا ما قرأ مثل هذه الآية، علم أنّ ما كان من هذا التأليف بين قلوب الصحابة رضوان الله عليهم ما كان منه من شيء أن يكون إلّا بالحبّ، وهو النعمة التي شغفت بها قلوبهم، واستضاءت بها صدورهم، وارتحلت إليها إراداتهم، فالتقت جميعها على أمر قد قدر لها، واستُجيشت منها وجداناتهم، وأنالت منها من جاء من بعدهم من القرون القارة في غيب المستقبل، حتى لكأنّها حاضرة فيهم، تراهم، وتسمعهم، وتلقف ما ترى وما تسمع على رجاء أن يكون منها لمن بعدها مثل الذي كان لها من أولئك الأعيان الأخيار من صحابة محمّد (ص) الأطهار، حبّاً لا يعرف للآخرين إلّا بمثل ما كانوا له وعليه ومنه وإليه، من إيمان وإسلام وإحسان. والحبُّ من أهمّ الحاجات النفسية، ولذا حَفلت السنّة بكثير من مظاهر هذا الحب، وتختلف وسائل إشباع هذه الحاجة من مرحلة لمرحلة، ففي مرحلة الطفولة المبكرة يَلَذُّ للمربي ملاعبة الطفل وترقيصه ومداعبته بأرقّ العبارات وتقبيله وضمه، وبعد أن يبلغ خمس سنوات يحبُّ الطفل أن يجلس قريباً من الوالدين، أو يضع رأسه على فخذ أحدهما، أو يقبلهما، أو غير ذلك، بل إنّه تشتد حاجته عند رجوعه من المدرسة، أو من مكان لم يصحب فيه والديه، أو عند وجود مشكلة خارج البيت أو داخله، وفي مرحلة المراهقة يظل محتاجاً إلى الحنان والحبِّ من والديه، وذلك أنّه قد يخجل من إظهار هذه العاطفة، وبخاصة إذا كان والداه ينتقدان حاجته للحبّ أو ينكران أن يقبّلهما أو يسند رأسه إليهما، أو يحسان بالانزعاج والتضايق عندما يعبّر عن حبه لهما. وعدم إشباع هذه الحاجة يؤدي إلى انعدام الأمن، وعدم الثقة بالنفس، فيصعب على الطفل التكيّف مع الآخرين، ويصاب بالقلق والانطواء والتوتر، بل يُعدُّ الحرمان من الحبّ أهم أسباب الإصابة بمرض الاكتئاب في المستقبل، ومن الناحية الاجتماعية تحدث فجوة بين المربي والطفل عندما لا تشبعُ حاجته إلى الحنان، فيحس الطفل بالانقباض تجاه والديه، ويستقل بمشكلاته، أو يفضي بها للآخرين دون والديه، ويصبح عنده جوعة عاطفية تجعله مستعداً للتعلق بالآخرين، والتعلق يتخذ صوراً كالإعجاب والحبّ المفرط المؤدي إلى العشق المحرم.
الكاتب: عبد الله محمّد الدرويش
المصدر: كتاب الأطفال الطريق إلى المستقبل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق