• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ألوان البرّ

ألوان البرّ

◄هناك كلمات إسلامية مظلومةُ القدر مهضومة الحقّ، لأنّنا حرّفناها عن جليل معناها، أو بعدنا بها عن نبيل مغزاها، أو جعلنا نكررها بألسنتنا دون تمعن فيها أو تدبر لمراميها. ومن هذه الكلمات كلمة "البرّ"، فغاية ما يفهمه كثير من عامة النّاس عن كلمة "البرّ" هو المعنى المادي الحسي المحدود، وهو معاونة المحتاجين بشيء من المال أو الصدقة. ونحن – مثلاً – نقول في كثير من الأحيان إنّ رمضان هو شهر الإحسان، ثمّ نحسب أنّ البر في رمضان هو أن نتصدق – فقط – على هذا الفقير ببضعة قروش، أو أن نقدِّم لذاك المسكين قدراً من الطعام، مع أنّ البر في منطق الإسلام اسم لفضيلة جامعة لأنواع الخير والتوسع فيه، فهو كما يقول بصراء العلماء: البرُّ فعلُ الواجبات، والبعد عن المحرّمات، والبشاشة مع النّاس، والعطف عليهم، والإحسان إليهم، وتحمل الأذى منهم.

والبرّ في تعبير القرآن الكريم يفيد معنى الإيمان وما يتبعه من أعمال، فهو يشمل صحة الاعتقاد واستقامة التطبيق، ولذلك يقول الحقّ جلّ جلاله في سورة البقرة: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

ولقد رووا أنّ رسول الله (ص) سُئل عن البرّ، فتلا هذه الآية الكريمة.

ويقول (ص) أيضاً: "البر حسن الخُلُق، والإثم ما حاك في صدرك (أي تردد) وكرهت أن يطلع عليه النّاس". ويقول في حديث آخر: "البرّ ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك النّاس وأفتوك".

وهذا هو القرآن الكريم يعطِّر ذكر البرّ في مواطن منه، ونحن نرى من جلال مكانة "البرّ" أنّ الله تبارك وتعالى قد جعل لذاته القدسية اسماً مشتقاً من مادته، وهو اسم "البَرُّ"، فقال القرآن في سورة الطور: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور/ 28)، أي العطوف على عباده، الشامل لهم ببره ولطفه ورعايته.

وجعل القرآن المجيد فضيلة البرّ صفةً من صفات الأنبياء والمرسلين، فقال في سورة مريم عن زكريا (ع): (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم/ 14). وقال في السورة نفسها على لسان عيسى (ع): (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم/ 32).

ومن دقائق التعبير في القرآن الكريم أنّه بعد أن عدّد أعمال البرّ الكثيرة الكبيرة في آية البرّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...) (البقرة/ 177) إلخ.

ختم هذه الآية بقوله عن أولئك الأبرار الأخيار: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177)، ولو رجعنا إلى الآية الكريمة التي فرض الله فيها فريضة الصوم على عباده لوجدناها تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). فهناك في آية البرّ قال: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، هناك في آية الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فكأنّ الصيام طريق يؤدي إلى تحقيق البرّ، لأنّ البرّ كما قالت الآية صفة المتقين، وكذلك يقول الله تعالى في سورة البقرة: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) (البقرة/ 189). والتقوى معنى كبير واسع، فالتقوى وقاية وصيانة من جهة، بالابتعاد عن كلّ سوء ورذيلة، والتقوى قوة وحصانة من جهة أخرى، بإتيان كلّ عمل طيب وسعي حميد.

والبرّ يتفرع إلى ألوان وأنواع، فهناك البرّ بالإنفاق لوجه الله تعالى، وفيه يقول ربّ العزة: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران/ 92). ولقد ضرب لنا أروع الأمثال في بر المؤمنين بانفاق أموالهم في سبيل الله عزّ وجلّ، حتى استحقوا أن يقال فيهم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8-9). وأن يقال فيهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

وهناك برّ الوالدين، بعدم عقوقهما أو الإساءة إليهما، وبالإحسان إليهما كلّ الإحسان، ولذلك يقول الرحمن: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 23-24).

وهناك برّ الأقارب وذوي الأرحام، والقرآن يقول: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأحزاب/ 6). وجاء في الحديث القدسي أنّ الرحم قالت لربّها: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال لها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟. قالت: بلى يا رب، قال: فذاك لك!. وفي الحديث النبويّ: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإنّ صلة الرحمن محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر".

وهناك البرّ في الكلام والحديث، فإنّ الكلمة الطيبة نوع من البرّ، والله تعالى يقول في سورة المجادلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المجادلة/ 9). وقد حبب القرآن المجيد أقوى تحبيب في البرّ بالكلام. فقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم/ 24-25)، ويقول: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيد) (الحج/ 24).

ومن لطائف البرّ في منطق الإسلام أنّ الإنسان لا يكون باراً إلا إذا كان صادقاً، ولذلك فسروا البرّ بالصدق، وتقول لغة العرب: برّ فلانٌ في يمينه، أي صدق فيها، وبرّ فلان بوعده إذا وفاه، وبرّ فلان بكلامه، إذا صدّقته بالعمل، ويقال: حجة مبرورة، أي مقبولة قبولَ العمل الصادق. ويقول الرسول (ص): "عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، وانّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صدِّيقاً". ►

ارسال التعليق

Top