• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهداف واستراتيجية النهضة الحسينية

عمار كاظم

أهداف واستراتيجية النهضة الحسينية

إنّ الحسين (ع) كان مَن جمع في إهابه الطاهر وركابه الماهر العدل على أشده، والفضيلة على أحسنها، والعلم على أوثقه، والمسؤولية على أتمها، فغدا بهذا الطرف الخيِّر الإنساني في صراعه مع الآخرين، الذين أكّدوا بأفعالهم وبأقوالهم بُعداً عدائياً عن العدل، ورفضاً شهوانياً للفضيلة، ونَفرة ملؤها الغرور الحاقد من العلم، وانعتاقاً من المسؤولية الإنسانية، ليُستبدل بها جهر بالفساد وإعلان بالسوء والشر. وها نحن نذكر بعض ما جاء على لسان سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، يحكي سبب ثورته ودافع قيامه: "هيهات منا الذلة، يأبى الله ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت، وبطون طهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوس أبية. ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه؟! فلا أرى الموت إلا سعادةً، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً " الحق دافعه، والقضاء على الظالم وراء خروجه، ومحو الباطل واستئصاله همه الذي سكن صدره إذ ثار. ويتابع الإمام حكاية سرِّ الثورة فيقول: "إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم. ويزيد رجلٌ فاسق، وقاتل النفس المحرَّمة، ومعلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله". نعم. ومثلُ الحسين (ع) في لُحمة الحقّ ومظهر دين الله، لا يبايع يزيد في مظهر الباطل، والإمام المؤهل للمبايعة هو مَن وصفه الإمام الحسين (ع) بقوله: "لَعَمري. ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذُ بالقسطِ، والدائنُ بالحقِّ، والحابسُ نفسه على ذات الله". رعيتَ يا حسين الأُمّة فأصلحتَ وقوَّمتَ مسارها، فجزاك الله خيرَ ما يجري مصلحاً عن أمته، يا قائد الإصلاح في سياق الإخلاص. ويقول الإمام الحسين (ع) المملوء قلبه بالفطنة والإنسانية بالصواب في رسالته إلى معاوية: "وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها، ولا أعظمَ نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمد (ص) أفضلَ من أن أجاهركَ. لقد قلتَ فيما قلتَ: إني إن أنكرتُك تنكرني، وإن أكدْكَ تكدني. فكدني ما بدا لك، فإني أرجو ألّا يضرني كيدك، وألا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلَك، وتحرَّضت على نقض عهدك، ولعمري ما وفين بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا وقاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقنا. فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ما أراك إلا قد خسرت نفسك، وتَبَّرت دينك، وغششت رعيتَك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفتَ الوَرع التقي". سلامٌ عليك يوم ولدتَ، ويوم خرجتَ، ويومَ ثُرتَ، ويومَ استُشهدتَ، ويوم تُبعث شهيداً سيداً في رياضِ الخلود، وسلامٌ عليكم جميعاً آل البيت.

إنّ من أبرز أهداف واستراتيجيّة النهضة الحسينيّة في أُمّة محمّد (ص) إلى يوم القيامة هو الإصلاح بكلّ معالمه وعوالمه ومظاهره وآلياته وتكتيكاته واستراتيجيّته، وعلى كلّ الأصعدة: الفردية والاجتماعية، العلميّة والعمليّة، السياسيّة والاقتصادية، العسكرية والثقافية، وغير ذلك. ومن أعظم آليات الإصلاح في المجتمع الإسلامي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء السيرة النبوية ومنهجية السيرة العلويّة. هذه دعوة الإصلاح لكلّ واحد من المسلمين، ومن كان في دائرة الأُمّة المحمّدية، وأمّا غير المسلم فإنّ الإمام الحسين علّمه أيضاً كيف يكون حرّاً في حياته بقوله الخالد (هيهات منّا الذلّة). ثمّ الدم الزكي من الإمام الحسين (ع) سقى شجرة الإسلام، فإنّ الإسلام كما قيل: محمّدي الحدوث وحسيني البقاء، ومن أسرار بقاء الإمام الحسين بين الأُمّة الإسلامية بل البشريّة جمعاء، هو إحياء يوم عاشوراء بكلّ مظاهر العزاء والشعائر الحسيّنة الإلهيّة جيلاً بعد جيل. ومثل هذا البكاء لا يكون عن عاطفة وحسب، بل من البكاء العقائدي والمبدئي الرسالي الذي يُنبّأ عن الرفض للظلم والظالمين، كبكاء سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) كما يحدّثنا التاريخ بذلك، حتى صارت من البكّائين الخمسة في العالم. ولم يبك الحسين أهل الأرض، بل بكته السماء وأهل السماء، كما لم يكن البكاء عليه في الدنيا، بل في الآخرة وفي المحشر، لذلك كما ورد في الأحاديث الشريفة، فإنّ قصّة عاشوراء ليست قصّة تاريخيّة ودراميّة يقصد من ورائها البكاء العاطفي، بل عاشوراء يتعلّق بالكون كلّه وبما وراء الكون والطبيعة. وإذ بذل الحسين (ع) النفس والنفيس في سبيل الله ما لم يبذله غيره، فكيف لا يعوّضه الله سبحانه بأن يثيب الباكي عليه بمثل هذا الثواب العظيم؟

أراد الحسين أن يبيّن للأُمّة أنّ المبادئ الإسلامية فوق الرجال والشخصيات، وأنّ القائد والإمام ليس له من الأمر شيء. فلابدّ للأُمّة أن ترتبط بالمبادئ أوّلاً، ثمّ ترتبط بمن يكون سلوكه مصداقاً لتلك المبادئ؛ فالمبادئ ثابتة والرجال يقتربون ويبتعدون منها، فقدّم الحسين المبادئ على نفسه وإن كان إماماً وابن بنت رسول الله (ع) وجعل الحقّ فوق نفسه فقال: "فمن قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحق".

إنّ ثورة أبي الأحرار (ع) أعطت الناس دروساً بليغة في استرخاص النفس مقابل المبادئ والقيم العظيمة التي أرسى قواعدها المصطفى محمد (ص). إنّ ملحمة عاشوراء علّمت الأجيال كيفية الدفاع عن حريم الإسلام، وعلمت المسلمين انّ التضحية في سبيله هي من أوجب الواجبات، وانّ الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم مقابل أن يعطيهم جنة عرضها السماوات والأرض، فباعوا هذه الأنفس وتلك الأموال، وهجروا الأولاد والأزواج، طالبين رضا الله، مشتاقين إلى لقائه، هاتفين باسمه، مستبشرين ببيعهم هذا. إنّ ملحمة عاشوراء أخذت معالم نصرها بالظهور بعد أن سقط الحسين (ع) وأصحابه صرعى تعطر دماءهم الوادي الذي راح يترنم بتلك الدماء الزاكية التي ملأت ترابه ليعم هذا العطر كلّ بقاع العالم، ويسمع صداه كلّ اصم ونائم. فاحبته الأرض لأنّه أحيا ميتها، وأنعش بوارها، واحبته الحقول لأنّه كساها من حلل النضار.

إنّ الانتصار الحقيقي هو انتصار القيم الإسلامية وتقريرها في واقع الحياة لتكوّن الأفكار والعواطف والسلوك الاجتماعي والسياسي منسجمة مع المنهاج الإسلامي وقيمه، ولا قيمة ولا وزن للانتصار العسكري والسياسي إذا لم يكن قائماً على أساس ذلك المنهاج وتلك القيم، فقد يكون النصر العسكري أحياناً وبالاً على الأُمّة، لأنّه لا يمتّ إلى مبادئ الإسلام وقيمه بصلة.

وقد أوضحت نهضة عاشوراء هذه الحقيقة في كلام الحسين مع بني هاشم "أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح". والإمام عليّ بن الحسين (ع) وهو قائد المرحلة الثانية من النهضة الحسينية يجيب على هذه الحقيقة، حينما سأله إبراهيم بن طلحة. قال: من الغالب؟ قال (ع): "إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب". فالانتصار الحقيقي كما يوضّحه الإمام هو انتصار مبادئ الإسلام وقيمه وعدم قدرة الطغاة على طمسها.

ارسال التعليق

Top