الأسرة هي المحضن الأساسي للتنشئة، والوالدان يقومان برعايتها، والاهتمام بشؤونها، والارتقاء بها، ويمثّل الأبناء الغرس الذي يحتاج إلى عناية فائقة كي يؤتي ثماره اليانعة.
وإذا كان المزارع يحتاج إلى أبسط القواعد الزراعية كي يحصد نتيجة غرسه بشكل طيّب، فكذلك الوالدين عليهما أن يمتلكا المعرف الأساسية واللازمة، والقواعد التربوية، والمهارات السلوكية ليتمكّنا من ممارسة عملهما الأبوي والتربوي بعيداً عن العشوائية والأخطاء التي ترتكب في حق الأبناء نتيجة الجهل بأبسط القواعد التربوية.
إن الكثير يخطئ في طريقة تعامله مع أبنائه أكثر مما يصيب، وهذا ينعكس بشكل مباشر على واقعهم الحياتي وعلى قدرتهم في تحقيق مستقبل أفضل.
إن التأهيل الوالدي يقلل من الأخطاء التربوية، ويعزّز فرص نجاح الوالدين في تحقيق أهداف العملية التربوية المتمثلة في نقل المعرفة والقيم والخبرات وتأهيل الأبناء نفسياً وأخلاقياً ومعرفياً ليكونوا قادرين على تحقيق أهدافهم وتطلعاتهم السامية.
النتيجة.. تتبع المقدمات:
إن ما يفعله الأبناء عندما يشبّون ويكبرون هو نتاج لتلك التربية والتوجيه الوالدي، وحصيلة العلاقة الأسرية، وإذا كانت مقدمات التأهيل التربوي صحيحة وسليمة فستكون النتيجة والمخرجات مثمرة فأبناء اليوم هم آباء الغد، وما تلقّوه وهم أبناء يافعين ينعكس عليهم وهم آباء راشدين.
صونوا أماناتكم:
لأنّ الأبناء أمانة الخالق بيد الآباء فعليهم أن يصونوا الأمانة بأفضل وأرقى الوسائل والأساليب، وأن يحسنوا التعامل معها، ولا يكون ذلك إلّا بامتلاك المؤهلات التربوية التي تساعدهم على حفظ الأمانة وصيانتها.
فاقد الشيء لا يعطيه!
كما تقول الحكمة المتداولة: «فاقد الشيء لا يعطيه» فكيف يستطيع الآباء والأمهات أن ينقلوا القيم والمبادئ والخبرات الحياتية لأولادهم مع عجزهم وقصور مؤهلاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم الوالدية.. فتأهيل الأبناء يستلزم أولاً تأهيل الذات وإلّا أصبحنا نغامر بمصير أبنائنا إذا كنّا عاجزين عن تأهيل أنفسنا كآباء وأمهات!
تصحيح المفاهيم:
هناك مفاهيم سائدة اجتماعياً حول مهمات الوالدين، وعلاقتهما بالأبناء، وبالتأكيد هناك بعض المفاهيم الخاطئة تحتاج إلى معالجة وتصحيح، خصوصاً مع تغير وتحول نمط الحياة، وتتابع الأجيال ووجود فوارق واختلافات في طريقة التفكير بين الآباء والأولاد، وهناك مفاهيم تربوية فاعلة تحتاج إلى تعزيز وتأكيد لدى الوالدين، والسعي نحو تأهيل أنفسهما معرفياً وسلوكياً، ولا يتأتى لهما ذلك إلّا بمزيد من التأهيل التربوي.
تعقّد الحياة المعاصرة:
في الماضي كانت الحياة خالية من الكثير من التعقيدات.. كانت حياة بسيطة يتعلم الأولاد العادات والتقاليد من بيئتهم المحافظة، فلم يكن هناك ضغطاً كبيراً على المؤسسة الأسرية لمواجهة المشكلات، وكان يكفي الوالد الأمّي أن يمتلك صفات إيجابية وأخلاقاً طيبة ليطبع بها أبناءه فيتشكّلون من خلالها نماذج طيّبة وخيرة، حيث انعدام المؤثرات السلبية الضاغطة.
في حين لم يعد الحال كما كان، إذ تعصف بالأبناء في هذا الزمن الكثير من المشكلات حيث ألقت المؤثرات العالمية بتأثيرها على مناحي الحياة ولوسائل الاتصال كالإنترنت والتلفزة دور خطير وكبير. من هنا كانت مهمة الإعداد لمواجهة الأخطار، وتذليل المشكلات وتبصير الأبناء مهمة لا غنى عنها.
حتى لا تندما!
عندما يقوم الوالدان بمهمتهما ورسالتهما تجاه الأبناء خير قيام ابتداءاً بإعداد أنفسهما وتأهيلها لتعامل مع مختلف مراحل التنشئة سيشعران بأنهما قاما بمسؤوليتهما على ما يرام، وسيعيشان الراحة النفسية لأنّهما بذلا ما في وسعهما وأعملا جهدهما، ويبقى التوفيق بعد ذلك يعتمد على حكمة الأبناء ورشدهم.
وإذا فعل الوالدين ما في وسعهما وقاما بما يجب عليهما القيام به ولم يتوفق الأبناء في إنجاز تطلعات الوالدين، فعندئذ لن يعيش الوالدين اللوم والحسرة لأنّهما أدّيا ما عليهما من واجبات تجاه أبنائهم في حين سيعيش الآباء والأمهات الموسومين بالإهمال وعدم الجدية أيام حسرة وندم وتقريع للذات على التفريط والإهمال في حق أبنائهم ولات حين ندم!! وسيكتوي الجميع بنار الآسى عندما يرون تعثر أبنائهم سلوكيا وحياتيا!
وحتى لا يصل الأباء والأمهات إلى تلك اللحظة عليهم أن يؤدوا رسالتهم الوالدية بالتأهيل الراقي لهذه المهمة بأفضل الوسائل والأساليب، وأن لا يؤخروا تلك المهمة العاجلة، فالأبناء يكبرون بسرعة، وكل تأخير في التعامل مع مشكلاتهم وعدم الاستعداد المبكر لها سيعني مزيداً من الإحباط والنتائج المؤسفة.
وهذا يعني أن تكثيف الجهود التربوية (الوالدية) تعطي فرصة كبيرة لتحقيق أماني الوالدين وتطلعاتهما لتقر بذلك أعينهما.
لذة النجاح:
عندما يحقق الأبناء أمنيات الوالدين يشعر الوالدين بفخر واعتزاز، وتجتاحهما مشاعر جياشة ولذيذة هي في حقيقتها طعم النجاح بتكلل مساعيهما وجهودهما بما كانا يصبوان إليه، وفي المقابل يحرم الآباء والامهات الذين قصروا في حق أولادهم - إعداداً وتربية - من لذة الفخر والنجاح، بل لا يحق لهم ذلك ولو تظاهروا بذلك عبثاً.. إلا أن ذلك الفخر والاعتزاز لا يصل ولا يسري إلى أعماق نفوسهم!
إن من سعادة الأب أن يسعى وبنجح في تأهيل ولده، ويخلقه بأخلاقه الطيبة كي يرى شبهه فيه.. يقول الإمام الصادق (ع): «من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبهه وخُلقه وخَلقه وشمائله».
نحو تقاليد تربوية واعدة:
لأنّنا نواجه معضلات تربوية تزداد شراسة وتعقيداً كلّ يوم فإنّنا بحاجة لأن تكون لدينا تقاليد تربوية عميقة ومتجذرة شامخة، لتكون مصدرا راسخاً وشامخاً تنكسر على جدرانه عواصف المعضلات لتنتصر تربوياً على كل التحديات، ونخرج جيلاً قادراً على حمل مسؤولياته، متجاوزاً كلّ المشكلات والصعوبات.
وحتى نرسي تلك التقاليد التربوية الواعدة فلابدّ لنا من أجيال والديه واعدة تقوم بمهماتها ومسؤولياتها التربوية، وبمستوى عال من الأداء حتى يأخذ عنها (جيل الأبناء والبنات) تجاربها الناجحة، وانجازاتها المبدعة.
إن هكذا تراكم للتجارب عبر الأجيال يرسي تقاليد تربوية عريقة ومتجذرة قابلة لاستيعاب مشكلات الجديد، والتغلب على صعوبات الحاضر، وتحدي معضلات المستقبل استناداً إلى بنى تربوية عميقة ومتجذرة تتناقلها الأجيال، وإن أي تقصير من الأجيال المعاصرة تجاه مسؤولياتها (الوالدية) سيترك أثر سلبياً عميقاً على الأجيال القادمة، مما يساهم في تعقد المشكلات، لأنّ كلّ جيل يترك بصماتٍ ما على أجيال المستقبل، وفي المقابل فإنّ كلّ تأهيل وإعداد تربوي جاد يسهم في تحسين الواقع التربوي، ويؤسّس لبنية تربوية سليمة، ويبشّر بمستقبل تربوي واعد.
استثمر لآخرتك:
من منّا لا يرغب الاستثمار في عالم الخلود والجنان، وسنحقق تلك الآمال في حال استطعنا كآباء أن نعمل على تنشئة صالحة لأبنائنا الذين سيكونون خير معين لنافي عالم الآخرة، بالدعاء والاستغفار، والصدقة، يقول الرسول الأكرم (ص): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له».
وجاء في رواية أن نبي الله عيس (ع) «مر بقبر يعذّب صاحبه، ثم مرّ به من قابل فإذا هو ليس يعذّب، فقال: يارب مررت بهذا القبر عام أول وهو يعذّب، ومررت به العام وهو ليس يعذب؟ فأوحى الله جل جلاله إليه: يا روح الله قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتماً، فغفرت له بما عمل ابنه».
ولا شك من أن دواعي صلاح الأبناء وحسن سيرتهم وجود آباء صالحين مؤهلين بالعلم والمعرفة ومسلّحين بالمهارات والأساليب التربوية المتقدمة، يقومون بمسؤولياتهم التربوية والارشادية تجاه الأبناء.
إن إحدى طرق ضمان السعادة الأخروية تكمن في العمل على الأبناء ليكونوا أفراداً صالحين، ليعود ذلك بالنفع علينا في عالم الآخرة، ولن يحصل ذلك إلا إذا كنا نحن قادرين على تزويدهم بالملكات والخبرة والفضائل.
المصدر: كتاب قبل أن تكون أبا!!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق