أكرم النعماني
إلى كل الذين يرون النقد نقيصة!
اقتضت الطبيعة أن تكون هناك غزلان وأُسود، والأُسود تطارد الغزلان تنشط الدماء في عروقها وتقوى على احتمال المرض وأن تقع المريضة منها في قبضة الأُسود ليبقى النسل نقياً، وان استعملت المريضة طرقاً خبيثة في الدفاع، إلا ان صلاح النسل تطلب أن تكون هذه هي الضحية وفي عالم الإنسان في مختلف مجالاته الفكرية وفي جميع ميادين حياته العملية، وان كان النقد – عموماً – أمراً اختيارياً إلا انّه ضرورة حتمية لصحة الإنسان وسلامته وسداده؛ ومجمل القول انّ الإنسان ما زال إنساناً يحتوي على امكانيات ومواهب وقابليات محدودة لا يستطيع بسببها أن يصيب دائماً فيختار ما هو حق وما فيه الاصلاح وان خيّل له ذلك، من هنا وانطلاقاً من هذاالمبدأ الفلسفي الذي ترتكز عليه جميع المذاهب النقدية على اختلاف اتجاهاتها، فإنّ الإنسان في حاجة ملمّة وماسّة للنقد الإرادي الواع؛ هذا ما ينبغي أن يفهم جيِّداً.
إلا أن على درب مثل هذا النقد عقبات ومعوقات ربما تثني عزم الناقد فيكبو جواده عند اجتياز هذه المرحلة، وبما أنّ الضط يرتفع لدى البعض وينخفض بنسبة درجة المدح والذم، فصاحبنا يبقى مخذولاً مدندناً يجامل هذا ويمدح ذاك ويذم أيضاً حسب مناسبات القوة والضعف فيسلط على نفسه في عملية النقد رقابة ذاتية دائمة فيحذف من نقده ما يحذف حتى يغدو عمله النقدي عند الولادة مشوّهاً سخيفاً أبعد ما يكون عما يسمى نقداً في مقاييس المذاهب النقدية، ولذا فبدل أن يكون النقد سبباً للصحة والسداد يصير مرضاً مؤبئاً يشل عجلة الحياة الفكرية والعملية. ولعل تولستوي في عبارته المشهورة:
"النقد حالة مرضية!"
أراد هذا الطراز من النقد.
وإنّ أراد الناقد أن يؤدي مهمته بصدق وأمانة فعلية أن يتأهّب لمواجهة الأخطار التي تعترض سبيله ويعد العدّة لمكافحة التبعات والمردودات التي يجرها عليه نقده؛ لأنّها مرحلة مواجهة صريحة أشد من مرحلة النقد الأولى، حيث أنّ المنتقد عادة في ساحتنا يوظف مختلف الأدوات ويذهب شتى المذاهب ليشيّد لنفسه وذويه صرحاً من المجد ممرداً فيهنأ في ظله ويباهي به ويرضي ما في دخيلته من دواع.. وفي هذا المضمار وكعمل وقائي فإنّه يضفي على نفسه قدسية لا أظن أحداً من الأنبياء أو الأولياء فرضها لنفسه من قبل.. فإذا جعل الناقد مجده هذا عرضة للنقد والتقييم يراه اعتداءً سافراً على ساحة قدسه وعزّ مملكته الوهمية فينبري مدافعاً بمختلف الأساليب وشتى الوسائل وإن كانت غير أخلاقية فتجد الرد عنيفاً غاضباً لكن بقدر الخوف المستحوذ على داخلته.
ومن الإجراءات الوقائية المصلحية التي يتخذها هؤلاء النفر هو السيطرة على القنوات الثقافية والإعلامية لتحقيق الأهداف التالية:
أوّلاً: ترسيخ دعائم مواقعهم في المناخات الثقافية والفكرية المختلفة.
ثانياً: قطع سبيل التنفس على كل متمرّد لا يكون مطية ذلولة يمتطونها حيث يرغبون. لذلك وردّاً على السؤال التالي:
- نلاحظ أنّ الوسط الثقافي حصر على أسماء معينة فكيف تم لكم اختراق حالة الهيمنة التي تفرضها بعض الأسماء في الشعر وغيره؟ وهل تعانون من هذه الظاهرة؟
أجاب الشاعر المبدع أحمد مطر في مقابلته مع مجلة "العالم" اللندنية!:
- ".. إن ما يحكم الوسط الثقافي اليوم هو صورة أخرى مما يحكم أنظمة الحكم أو الأحزاب، مرة بشكل مباشر مرتبط بنظام الحكم القادر على بذل الأموال الطائلة على الرعاية والاعلان لمن يعمل عبداً متأنقاً لديه، أو يعمل "برغياً" في آلته. ومرة بشكل غير مباشر، وذلك على هيئة "مافيا" اعلامية، تضم أفراداً متفرقين موزعين على مختلف البلدان وعلى مختلف الوسائل، ولكنهم موحَّدون في نطاق قوانين "العصابة" بدوافع اتفاق فكري أو حزبي أو تجاري.
وعندي أن خطر هؤلاء أشد من خطر الأنظمة، لأنّ الأنظمة تقتل بوضوح وضجة كالطاعون، بينما هؤلاء يقتلون بشكل سري وصامت.. كالإيدز. لكن هناك عناصر شريفة – تشكل أقلية – لا تزال تحفر هذا الجدار بالأبر، وتكتب بدافع من ضمائرها المجرّدة من الحول النقدي أو الانحياز أو المحاباة. وفي ذلك بعض العزاء. ولا أعتقد أنني اخترقت حالة الهيمنة هذه بل انني بنيت لي كوخاً مجاوراً لقصرها. وهي ما زالت تبالغ في بهرج القصر وزينته وصقل زجاجه وتلوين أضوائه.
أمّا أنا فلا أزال أقف على باب الكوخ أقدّم الماء والطعام والدفء والقهوة للسائلة، ولا أرى انني أعاني كثيراً من هذه الظاهرة، بل أجزت أنها هي التي تعاني مني. فماذا تعني سعة القصر وأضواؤه وألوانه، ما دام الناس لا يرتوون ولا يطعمون ولا يستدفئون إلا في كوخي؟!".
إلا أنّ من الأدعياء من لو كان ايدزاً لكان به بعض العزاء!
ثالثاً: استقطاب الكفاءات والمواهب الناشطة وتوظيفها نحو الأهداف المنظورة.
وأقولها كجملة اعتراضية:
إنّه لقيادة الأوضاع الثقافية لا يكفي أن نحمل بين جوانحنا طموحات كبيرة، بل القيادة تتطلب مؤهلات غير متوفرة في من يهواها، فمن الحكمة ومن التدبير أن يتخلى هذا البعض عن ذلك ويتفرغ لأمور معاده ومعاشه لو كانت!
وما تصنع بالسيف إذا لم تك قتّالا **** فكسِّر حلية السيف وصغ من ذاك خلخالا
فالمتوخى أن يكشف الناقد عورات هذه القدسية المزيفة وهذه السيطرة اللامشروعة، فالناقد الجريء هو من يقتحم هذه الميادين الملفومة لانقاذ الموقف من أجل المصلحة العامة، وحينئذٍ يكون قد أدى واجبه أمام ضميره وما أخذه على نفسه.
فلا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ المرحلة الثانية من الشدة بمكان لا يجتازها إلا الذي أعدّ نفسه لدفع الكثير وخوض مواجهة عسيرة متعبة حفاظاً على شرف الحقيقة.
ولكي لا أجانب الانصاف أقول:
في الوقت الذي يقود فيه البعض زورقه بطريقة لصوصية كي لا يستهدف؛ وبعض آخر يدعو بالحاح إلى نقد أعماله حتى إذا كان ذلك بطريقة سلبية – هذا معنى التحدي المر الشريف – فيذعن بمطلق الحرية للناقد في تعامله مع كل عمل أدبي ومع شخصه أيضاً بل يعد بعض المهام في العمل الأدبي من اختصاصات الناقد فلا يخوض فيها؛ هكذا يجب أن يفهم الإنسان وهذا هو من عرف قابليات الإنسان ومواهبه ووعى انجازاته الفكرية والأدبية، ونحن يُعوزنا هذا. النمط من الوعي والبصيرة وهذا الطراز من الحِلْم الأنبيائي كي نصنع أوضاعاً أدبية وثقافية مزدهرة نموذجية بعيدة عن الدنس والزيف والدجل.
ارسال التعليق