• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إيحاءات الدعاء التربوية

عمار كاظم

إيحاءات الدعاء التربوية

للدعاء دور تربوي عميق على صعيد التطلّع الروحي للإنسان وانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، بحيث يعيش الإنسان، في أجواء المناجاة، سرَّ التوحيد الإلهي في حركة مشاعره الإنسانية، وفي علاقة حاجاته بالله وانفصالها عن غيره، في عملية إيحاءٍ داخلي بأنّ التوجّه إلى غير الله في حاجاته، حتى في ما يشبه الخطرات الفكرية أو النزعات الغريزية، يمثّل لوناً من ألوان الإثم الشعوري الذي يسيء إلى الاستقامة الروحية. وهذا ما نتمثّله في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في طلب الحوائج إلى الله، حيث يقول: «اللّهمّ يا منتهى مطلب الحاجات، ويا من عنده نيل الطلبات، ويا مَن لا يبيع نعمه بالأثمان، ويا مَن لا يكدّر عطاياه بالامتنان، ويا مَن يُستغنى به ولا يُستغنى عنه، ويا مَن يرغب إليه ولا يرغب عنه، ويا مَن لا تفني خزائنه المسائل، ويا مَن لا تبدل حكمته الوسائل، ويا مَن لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين، ويا مَن لا يعنّيه دعاء الداعين».

إنّ هذا الدعاء ينطلق ليركّز في ذهنية الإنسان الفكرة التي تنفتح على الكلّي القدرة، الكريم في العطاء، الواسع في النعماء، الذي لا يضيق كرمه عن سؤال أحد، كما أنّ يده بالعطايا أوسع من كلّ يد، والذي يُستغنى به ولا يُستغنى عنه، ويُرغب إليه ولا يُرغب عنه. كما ينفتح على الإنسان المحتاج إلى ربّه، لأنّ ذلك ليس شيئاً ذاتياً ينطلق من سرّ الغنى في شخصه، بل هو شيءٌ طارىء، يستمده من عطاء ربّه، في ما يمنحه من قدرة، أو يعطيه من إمكانات.

من الأمور الأساسية في استجابة الدعاء هو التوبة إلى الله سبحانه تعالى، وحضور القلب، وعدم القيام، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اعلموا أنّ الله لا يقبل دعاء عن قلب غافل». وجاء أيضاً في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن سليمان بن عمرو قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «إنّ الله عزّوجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثمّ استيقن الإجابة». وجاء أيضاً في وصيّة أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): «ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيّرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب». يبيّن (عليه السلام) في هذا المقطع كرمه سبحانه وجوانب اللطف في تشريع الدعاء، فالله يعلم أنّ كلّ إنسان معرّض للخطأ والزلل والوقوع في الشبهات والمحرّمات، فلم يستعجله بالعذاب على ذلك بل فتح له باباً من أبواب الرحمة ليتوب ويرجع إلى الله.

وإذا كان الإنسان؛ كلّ إنسان، في موقع الحاجة إلى الله، فكيف يتوجّه الإنسان الواعي إلى مثله ليرفع حاجته إليه، وهل ذلك إلّا لونٌ من ألوان الغفلة عن حقيقة الفقر الإنساني أمام حقيقة الغنى الإلهي، بالإضافة إلى أنّها زلّةٌ من زلل الخاطئين، وعثرةٌ من عثرات المذنبين، لأنّها خطيئةٌ تتصل بالانحراف عن خطّ الاستقامة في التصوّر التوحيدي للإنسان، وبالخلل في الوعي الإيماني للحقيقة الإلهية في معنى وجود الإنسان وحركته، وفي سعة القدرة وشموليتها، وهكذا تتبلّور لدى الإنسان مسألة الاستعانة بالله وحده، بعيداً عن الاستعانة بغيره. إنّ هذا الدعاء يعالج المسألة في الدائرة الفكرية النظرية على أساس إثارة مسألة الحاجة الذاتية لدى الإنسان في جميع مواقعه وأشكاله، لتكون رادعاً عن توجّه الإنسان إلى مثله، وغفلته عن توجّهه إلى ربّه.

وفي دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللّهمّ سُدّ فقرنا بغناك اللّهمّ غيِّر سوء حالنا بحسن حالك»، فالدعاء بهذا المعنى هو صدى وانعكاس حقيقي لمشاعر الفاقة، والعجز الذي يغمر الإنسان، وترجمة واقعية لعبودية الإنسان، وارتباطه بخالقه، فقد ورد في موارد الدعاء: «أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري». إذن الدعاء هو الذي يُجذر في الإنسان شعوره بالعبودية والرهبة لله سبحانه، فلذا عُدَّ الدعاء من أفضل أنواع الوعي الذاتي الذي يستذكر فيه الإنسان أصالته وعبوديته، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إلهي أصبحت وأمسيت عبداً داخراً لك لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلّا بك». فالدعاء هو مفتاح خزائن الله، خزائن ملكوت الدنيا والآخرة، وهذا المفتاح يسَّره الله تعالى للإنسان، وجعله في متناول يده، من غير شفيعٍ أو وسيط.

ارسال التعليق

Top