كيف رسم الحسين بفرشاته تلك اللوحة التي توجها بلون الدم القاني؟ وكيف استطاع أن يرسم على الرمال تلك الدروب التي تقود خطانا منذ القرن الأوّل للهجرة وحتى الوقت الحاضر إلى سماع الصيحة؟
وكيف وظّف الشعراء تلك اللوحة بخطوطها وإنحناءاتها وألوانها في شعرهم منذ عام 61هـ وحتى ديوان الشعر المعاصر؟ وكيف برز الرمز الحسيني وما يتعلق به كربلاء... الطف، وعاشوراء من خلال قصائد الشعر ومدد الكلمات والجراح؟
منذ فاجعة كربلاء سجّل الشعر حضوره، واستطاع الشعراء تسجيل مواقفهم بُعداً أو قُرباً من تلك الفاجعة.. وظهر لون جديد من الشعر عُرف بالمكتمات لعدم قدرة الشاعر على الجهر بهذا الصوت الشعري الجديد.
لقد عَبَّر الشعراء (عن) رمز الفاجعة الأوحد ولم يُعبِّروا (بهذا) الرمز فترى قصائدهم تسجيلاً لتلك الفاجعة بشخوصها وخيلها.. وتسمع من خلالها صليل السيوف ومطاعن الرماح.. وهذا اللون ساد فترات طويلة، وامتاز بمباشرته وتقديريته.. أي أنّ هذا الشعر كان تأريخاً وتسجيلاً لتلك الحادثة المأساوية.
لقد كان التراث والرموز التراثية في كل العصور بالنسبة للشاعر هو الينبوع الدائم للتفجير بأصل القيم وأنصعها وأبقاها، والأرض الصلبة التي يقف عليها ليبني فوقها حاضره الشعري الجديد، والحصن الذي يلجأ إليه كلما عصفت به العواصف فيمنحه الأمن والسكينة..
في الشعر العربي المعاصر أصبح توظيف الشخصية التراثية يأخذ منحىً جديداً، وهو المنحى التعبيري الذي يحمل بُعداً من أبعاد تجربة الشعر المعاصر.. بعبارة أخرى، أنّ تلك الشخصية تصبح وسيلة تعبير وإيماء في يد الشاعر يعبر من خلالها، أو بها عن رؤياه المعاصرة..
وهذا التوظيف للشخصية التراثية هو آخر الوشائج في علاقة الشاعر المعاصر بموروثه.. وأصبحت ظاهرة التوظيف هذه شائعة في شعرنا المعاصر وسمة بارزة فيه..
وكان التراث المستلهم هو هذه الأصوات التي سمعناها والتي استطاع الشاعر المعاصر من خلالها أن يعبر عن أفراحه وأحزانه، وأن يبكي هزيمته أحرّ البكاء وأصدقه وأفجعه، وأن يتجاوز تلك الهزائم والفجائع في نفس الوقت بينما كان كل كيان الأُمّة ينوء منسحقاً تحت وطأتها الثقيلة وأن يستشرف النصر ويرهص به في أفق غامض فيه بيارق النصر..
إنّ حالات الرفض التي استحضرها شعراؤنا ليواجهوا بها حيرة هذا الزمن واشتداد الطغيان فيه هي إشراقات الوعي والشهادة في سبيل الحرِّيّة.. وإذا كانت هذه الرموز غائبة عن الرسمي من الكتب، فإنّها حاضرة في الوجداني من صدور الناس تمثل إحتجاجهم على فشل الواقع في تحقيق زمن التنوير في نهضة يكون للفقراء والزنج والإمام الحسين وأبي ذر الغفاري فرصتها وعدالتها وقصائدها العظيمة..
ويمكن تصنيف الشخصيات التاريخية التي استخدمها الشاعر المعاصر إلى نوعين رئيسيين تمتّ كلّها بصلة إلى طبيعة الظروف التي كانت تمرّ بها الأُمّة العربية في نصف القرن الأخير هي بحسب استحواذها على إهتمام الشعراء:
أوّلاً: أبطال الثورات والدعوات النبيلة الذين لم يقدر لثوراتهم أو دعواتهم أن تصل إلى غايتها فكان مصيرها ومصيرهم الهزيمة الظاهرية، ولم يكن سبب هذه الهزيمة نقصاً أو قصوراً في دعواتهم أو مبادئهم وإنّما كان سببها أنّ دعواتهم كانت أكثر مثالية ونبلاً من أن تتلاءم مع واقع ابتدأ الفساد يسري في أوصاله..
ثانياً: شخصيات الحُكّام والأُمراء والقواد الذين يمثلون الوجه المظلم لتاريخنا سواء بسبب إستبدادهم وطغيانهم، أم بسبب إنحلالهم وفسادهم، وكذلك الشخصيات التي استغلها هؤلاء كأدوات للقضاء على الدعوات والقيم النبيلة في عصرهم.
وإلى جانب هذين النوعين الرئيسيين، ثمة شخصيات أخرى قد لا تندرج إندراجاً مباشراً تحت أي نوع من هذين النوعين، ولكنها تمتّ بصلة أو بأخرى إلى هذا النوع أو ذاك، وذلك مثل شخصيات الشهداء الذين انتصرت القيم والمبادئ التي استشهدوا من أجلها..
وسيكون النوع الأوّل هو محور هذا الموضوع..
وأبرز من فتن شعراءنا من شخصيات النوع الأوّل شخصية الحسين (ع) – وتكاد تكون أكثر شخصيات الموروث التاريخي شيوعاً في عصرنا المعاصر – ، فقد رأى شعراؤنا في الحسين (ع) المثل الفذ لصاحب القضية النبيلة الذي يعرف سلفاً أنّ معركته مع قوى الباطل شهادته وشهادة أصحابه، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يبذل دمه الطهور في سبيلها، موقناً أنّ هذا الدم هو الذي سيحقق لقضيته الانتصار والخلود، وأنّ في استشهاده انتصاراً له ولقضيته..
وبهذه الدلالة استدعى شعراؤنا شخصية الحسين ليعبروا من خلالها عن أنّ الهزيمة التي تلقاها الدعوات والقضايا النبيلة في هذا العصر، واستشهاد أبطالها المادي أو المعنوي إنّما هو إنتصار على المدى الطويل لهذه الدعوات والقضايا..
ويأخذ الحسين (ع) موقعاً متميزاً في مسيرة الشهادة من وجهتي النظر التاريخية والفنّية، وتحضر كربلاء رمزاً للأسى والجراح والحزن والندم، وقد أخذ الرمز ببعديه التاريخي والشعبي حيزاً في جملة من القصائد، وأصبح النداء باسمه إشارة رمزية للغضب والحزن والشهادة في أعلى أبعادها الدينية والشعبية معاً في سبيل الموقف، بل وصار رمزاً لخذلان الثائر العظيم من مؤيديه..
وفي مأساة الحسين باعتبارها من المآسي الكبرى تقع – كما يقول جبرا إبراهيم جبرا – "أنواع شتى من مآسي الإنسان في جو القيظ والعطش والقسوة والقتل الجماعي وحزّ الرؤوس، هناك مأساة الجنون البشري، ومأساة الخيانة، ومأساة القتل المجاني، وكذلك مأساة المروءة والفضيلة.. الحسين أكبر من الحياة، ولعله لكبره وعلوه خارج الدائرة التي يمكن للمرء ضمنها أن يتوحّد مع البطل رغم تطلعه إليه، ولذا يكون التعبير الفني عنه قاصراً عل مداه الفاعل" صورة الحسين حاضرة في بعض قصائد عبدالرزاق عبدالواحد، ومنها ألواح الدم التي يستدعي فيها الحسين ويجعله نداءً عظيماً يهتف به:
يا حسين
إنّ للصمت في أرضنا آيتين
أن يكون كريماً، عظيماً، رحيماً، كصمتك
ممتلئاً بالمروءة، ممتلئاً بالنبوة، ممتلئاً بالنشوز
غبشاً يتوسّط بين إنتهاء الحياة وبدء القيامة
وعليه علامة
إنّه مفعم بالحضور.. أو يكون كصمت القبور[1].
ويأخذ رمز الحسين موقعاً عميقاً في بعض قصائد شوقي بزيغ، فهو الرمز الضدّ لكل ما هو سائد ومهزوم، إن توحّد رأس الحسين بجسده من جديد يعني عودة الحياة إلى نقائها ويعني بعث الحياة من جديد..
سيأتي زمان الولادة
والفصل بين الخلافة والسوط
شيء يعيد الملايين بعض إله
ويقذف في الصدر ناراً
ويرجع رأس الحسين وجسم الحسين سويّا..[2].
أمّا عند أمل دنقل، فإنّ حالة كربلاء وعطش الحسين تصبح رمزاً لسؤال كبير في الورقة السابعة من قصيدته "من أوراق أبي نؤاس"، حيث يقف الشاعران (أبو نؤاس، أمل دنقل) أمام ضمأ الحسين، أمام جرعة الماء التي مات ولم تمنح له.. إنّه الموقف الحقّ الذي يُستباح لأنّ ضعاف النفوس يعميهم الذهب:
كنتُ في كربلاء
قال لي الشيخُ إنّ الحسين
مات من أجل جرعة ماء
وتساءلت: كيف السيوف استباحت بني الأكرمين
فأجاب الذي بصّرته السماء
إنّه الذهب المتلألئ في كلّ عين
... مات من أجل جرعة ماء
فاسقني يا غلام صباح مساء
اسقني يا غلام
علّني بالمدام
أتناسى الدماء[3].
ويستدعي قاسم حداد الحسين ليكون راية السائرين في زمان الشاعر نحو هدف أعلى في قصيدة يرسم فيها ملامح الثورة وأزمتها في الواقع العربي المعاصر.. ويعطي القصيدة عنواناً دالاً هو "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة":
نسير ونعرف كيف نشق التراب، ونبذر داخله
كيف نحزّ الرؤوس ونزرعها عبر كلّ العصور
فنحن الحسين المسافر من كربلاء
ورأس الحسين الممزق بين دمشق وبين الخليج
ونحمله نستريح على سورة المومياء[4].
ويضمّن قاسم حداد في القصيدة نفسها، عبارة السياب من قصيدة "أنشودة المطر" وهي "ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع" ويضع كلمة "الخليج" محل كلمة "العراق" ويطوّع الرمز:
ويستقبل الجوع رأس الحسين، ويفتح باب الحريق
ليدخل رأس الحسين.
آنذاك تقام سرادق الأعراس وتصير البلاد عروساً لها ألف طفل، وتنهّد جدران المسافات، ويحمل الجمع رأس الحسين (الرأس هنا رمز الثورة، والتوحُّد بالجسد غير وارد)، فالثائرون يحملون رأس الحسين ويسيرون إلى مدن النار وتبدأ الثورة في الخليج..
وهذه القصيدة ذات بناء يتنامى فيه غضب ورؤية لزمان قادم، مستمدة من وعي بالرمز الأصل، وهو رأس الحسين الذي حمل إلى عبيدالله بن زياد ثمّ إلى يزيد بن معاوية: رأس الحسين الذي يتحوّل إلى راية في زمن آخر احتجاجاً على الظلم والموت والحيرة والقلق..
وهناك نص هو "العودة إلى كربلاء" لأحمد دحبور، وهو معادل للإنسان الفلسطيني الذي وجه بالخذلان، وأدخل إلى نار المذبحة، وفار دمه ودم أهله، كما فار دم الحسين وأهله في كربلاء.. إنّ الرمز هنا لكربلاء الفلسطينيين: الأسى والعطش والحصار والغضب والمأساة.. إنّه البحث عن ماء في زمن العطش، لقد وصل إلى كربلاء رغم الطرق المغلقة، ورغم مشقة الطريق آملاً أن تكون البداية، ووجد الحسين نفسه وحيداً في المواجهة بينما تقاسم الآخرون أسرارهم وثمر النخيل.. إنّهم الذين خذلوا الفلسطيني المعاصر:
شاهدتهم، ومعي شهودي
أنت، والماء الذي يغدو دماً
ودم لديهم صار ماءْ
والنخيل
شاهدتهم – عين المخيم فيَّ لا تخطئ – وكانوا:
تاجراً، ومقامراً، ومقنعاً، كانوا دنانير النخيل
ودخلت في موتي وحيداً أستحيل
وطناً، فمذبحة، فغربة..
يا كربلاء، تفور فيَّ النار،
أذكر كيف تنقلب الوجوه[5].
وحضور الرمز هنا استدعاء مباشر ليقول من خلاله ما يريد، وهو رمز لا يحتاج إلى بناء مركب في مثل هذا النص المباشر أيضاً، أي الذي يريد صاحبه الاحتجاج من خلاله على القتل، ويريد أيضاً أن يتحوّل الدم – كما تحوّل دم الحسين – إلى محرِّض، ودعوة لثورة مستمرة، لخروج الماء من أرض كربلاء لتروي عطش الحسين:
آتٍ على عطش وفي زوادتي ثمر النخيل
فليخرج الماء الدفين إليَّ.. وليكن الدليل..
ومن صور توصيف مأساة مقتل الحسين وما حلّ بأصحابه وأهل بيته مقطع من قصيدة لحميد سعيد يشير فيها إلى فلسطين، إذ يمزج بين حزن النساء على فلسطين، وبين حزنهنّ التاريخي على الحسين وهو حزن بنات الحسين:
... وفلسطين لما تزل في دمي
شغف
النساء تحدّثن عنها.. بكين.. وقلتُ:
لعل فلسطين واحدة من بنات الحسين...[6].
هذه أمثلة من قصائد وظفت كربلاء ومأساة الحسين وأهله في محاولات من الشعراء للتعبير بها عن أبعاد مأساة العربي المحاصر: بين حدّي الظمأ إلى الحرِّيّة والتقدُّم، وقيد السلطة وظلم الولاة/ الحُكّام..
ويمكن اعتبار تعامل (أدونيس) مع تجربة الحسين من التجارب العميقة في توظيف المأساة، ففي "مرآة الرأس" يقدم حواراً بين رجل وزوجته، فقد احتزّ الرأس وعاد إليها يبشرها بمال الدهر، لكنها ترفضه عندما تعرف أنّه عاد برأس الحسين:
أبشري،
جئتك بالدهر، بمال الدهر
من أين، وكيف، أين؟
برأسه...
ويلك يوم الحشر
ويلك لن يجمعني.. طريق أو حلم أو نوم
إليك بعد اليوم
وهاجرتْ نوّار..[7].
إنّ إسقاط الخبر التاريخي والحكايات الدينية الشعبية عن النص الشعري هنا، والاكتفاء بهذه الإشارة العميقة يحقق نصاً يتقدّم على غيره من نصوص وظفت مأساة الحسين..
وفي "مرآة الشاهد"، صورة عميقة أخرى لاستيعاب الحالة كلّها وصياغة حوار بين زمنين متباعدين لحالتين قديمة ومعاصرة ضمن رؤية جديدة، وصياغة فنّية للتعبير عن موقف نضالي قدم من خلاله إحساس الغضب والألم باعتبارهما حافزين للناس على الثورة، وفي لوحة إنسانية عميقة الصدى في التعبير عن التجربة، وهذه القصيدة تعبر عن أنّ استشهاد الحسين قد أحدث أثره في كلّ مظاهر الوجود وفي هذه اللازمة التي تذكرنا بالنشيد الجماعي الحسين.. الحسين (ع):
حينما استقرت الرماح في جسم الحسين،
وازّيّنت بجسد الحسين،
وداست الخيول كل نقطة في جسد الحسين،
وأستلبتْ، وقسمت ملابس الحسين،
رأيت كلّ حجر يحنو على الحسين،
رأيت كلّ زهرة تنام عند كتف الحسين،
رأيت كلّ نهر يسير في جنازة الحسين (ع)[8].
والمرآة الثالثة عند (أدونيس) لمسجد الحسين، إذ تطوف حوله الأشجار والسيوف:
ألا ترى الأشجار وهي تمشي
حدباء
في سكر وفي أناة
كي تشهد الصلاة ألا ترى سيفاً بغير غمد
يبلى
وسيّافاً بلا يدين
يطوف حول مسجد الحسين (ع)[9].
إنّ نموذج أودنيس هنا يقدم الرمز البطل بدلالات قيمته النفسية، والحسين هنا "بطل التراجيديا" وليس مجرد "بطل التاريخ" الحقيقي..
لقد تحوّلت الحقيقة التاريخية إلى أسطورة، وخلق الشاعر من الأسطورة ومن رؤيته حالة جديدة للبطل هي حالة الحضور الحدسي الوجداني، وأصبح موت الحسين علامة وجوده المستمر، وأصبح التلاحم بين الحسين وبين الجمهور المشبع بذكراه يمرّ من خلال قصيدة، بعد أن كان يمرّ من خلال التاريخ والسيرة الشعبية..
وفي قصيدة "الصخرة والندى" للشاعر حسب الشيخ جعفر يصور فيها أنّ الحسين – رمز كلّ شهيد في سبيل قضية نبيلة – أصبح راية تلتف حولها الجموع، فحينما استقرّ به المطاف:
رأساً وحيداً مترباً مقطوع
في طبق من ذهب يضوع بالمسك والحنّاء
رأى وجه أُمّه الزهراء
مبللاً طوال ليل الموت بالدموعْ
ورفرفتْ حمائم بيضاء
تؤنسه طوال ليل الموت كالشموعْ
وبعد معاناة عذاب الاستشهاد وآلامه يغدو رأس الحسين الشهيد راية تسير وراءها الجموع:
أيّتها الشمس
طاف على الرمح، وها عاد إلى منبته الرأس
حياً، مكرّاً، بيرقاً مغير[10].
وهناك نموذج آخر لمظفر النواب وهو "وتريات ليلية"، ففيه نلحظ غضبه العفيف من أبي سفيان (رمز شورى التجار) وإيقاظاً لرمز الإمام علي (ع) مستفيداً من الصورة التاريخية لأحداث كربلاء وشخوصها:
ماذا يقدح في الغيب؟
أسيف عليّ
قتلتنا الردة يا مولاي كما قتلتك بجرح في الغرّة
هذا رأس الثورة
يحمل في طبق في قصر يزيد
... ويزيد على الشرفة يستعرض أعراض عراياكم ويوزعهنّ كلحم الضأن
لجيش الردّة..
ويصبح نداء الثورة مشتعلاً
ونداء لملك الثوار أن يظهر من جديد[11].
وإلى جانب هذه المداليل العامة لشخصية الحسين، عبَّر الشعراء به عن قضية أخرى، وهي تفرد أصحاب الدعوات الكبرى ووحدتهم وسلبية الجماهير إزاءهم وإزاء دعواتهم، لأنّ القضايا الجليلة لا يقوى على حملها إلا المجاهدون الكبار..
في قصيدة "واتكأ على رمحه" للشاعر ممدوح عدوان، يصور الشاعر من خلال تصويره لوقوف الحسين حاملاً جلال قضيته ونبالة إصراره على عدم التنازل عنها بعد أن انفضّ من حوله أصحابه عند اشتداد الكرب حين حال جيش بن زياد بين الحسين وبين الماء ورفض أن يسقيه إلا إذا بايع ليزيد، نرى وقفة أصحاب الدعوات في كلّ العصور:
حين أتاك ذلك النداء
إن كنت تبغي شربة من ماء
فدع على الرمال هذا السيف
لم يبق واحد من الصحابة
وكنت واقفاً تحيطك الغرابة
وسط أتون الصيف[12].
ومن خلال هذا الموقف ذاته، يدين شاعرنا المعاصر تقاعس الأُمّة وسلبيتها الذميمة حين تنتهك حرماتها، ويصبح أنبل ما فيها كلاً مستباحاً لقوى الفساد والطغيان..
في قصيدة "الفارس الصريع وكربلاء الهزيمة" للشاعر راضي مهدي السعيد، يعبِّر الشاعر من خلال تصويره لماساة الحسين في كربلاء عن إدانته لسلبية الأُمّة وتقاعسها وجبنها:
في كربلاء الأمس كان الجرح والهزيمة
لأُمّة لم تحمل الراية حين شبّت السيوف
واخترقت مفاوز الصحراء خيل تمتطيها أذرع لئيمة
ترهب فارساً أتاها يزرع الحتوف
في أعراق تشدها خطى محاريب
سنين شمسها رميمة[13].
ويتداعى الواقع العربي منهاراً في النص ويشتعل الإيقاع غضباً، يستعين بالغاضبين الثائرين من رموز الرفض والثورة في تراثنا العربي الإسلامي، بأولئك الذين يشكلون النماذج العليا تاريخياً، وشعبياً، وسلوكياً.
ولا يفوتنا أن نذكر استحضار مأساة الحسين في المسرح العربي المعاصر من خلال ما كتبه عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيته "الحسين ثائراً والحسين شهيداً"، ومسرحية "ثانية يجيء الحسين" لمحمد الخفاجي، ومسرحية "هكذا تكلم الحسين" لمحمد العفيفي، ومسرحية "كربلاء" لوليد فاضل.
وتبقى مأساوية استشهاد أصحاب الدعوات النبيلة هي الأكثر استحواذاً على خيال شعرائنا ووجدانهم.
[1] - آفاق عربية، السنة العاشرة، كانون الأول، 1985، العدد 12/ 4.
[2] - شوقي بزيغ، عناوين سريعة لوطن مقتول، ص67.
[3] - أمل دنقل، الأعمال الكاملة، ص266-267.
[4] - قاسم حداد، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، ص65.
5 - ديوان أحمد دحبور، ص258-262.
[6] - ديوان حميد سعيد، ص173.
[7] - أدونيس، المسرح والمرايا، مرايا وأحلام حول الزمن المكسور 16 و17، ص83 و84.
[8] - المصدر نفسه.
[9] - المصدر السابق، رقم 18، ص85.
[10] - حسب الشيخ جعفر، ديوان (نخلة الله)، ص8.
[11] - مظفر النواب، وتريات ليلية، ص21-23.
[12] - مجلة الآداب، تشرين الأول، 1967، ص8.
[13] - راضي مهدي السعيد، مرايا الزمن المنكسر، ص196.
ارسال التعليق