◄ أقام الإسلام العلاقة بين أبناء مجتمعه على دعامتين أساسيتين.
أولاهما: رعاية الأخوة التي هي الرباط الوثيق بين بعضهم.
والثانية: صيانة الحقوق والحرمات التي حماها الإسلام لكلّ فرد منهم من دم وعرض ومال.
وكلّ قول أو عمل أو سلوك فيه عدوان على هاتين الدعامتين أو خدش لهما، يحرّمه الإسلام تحريماً يختلف في الدرجة حسب ما ينجم عنه من ضرر مادي أو أدبي.
وفي الآية التالية نموذج من هذه المحرمات التي تضرّ بالأخوّة وتضرّ بحرمات النّاس. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 10-11).
إنّ الله سبحانه وتعالى يعلّمنا في هذه الآيات أنّ المؤمنين إخوة تجمعهم أخوة الدين وأخوة البشرية. ومقتضى الأخوة أن يتعارفوا ولا يتناكروا ويتواصلوا ولا يتقاطعوا ويتصافوا ولا يتشاحنوا ويتحابوا ولا يتباغضوا ويتحدوا ولا يختلفوا.
وفي الحديث قال (ص): "لا تحاسدوا، ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً". ومن هنا حرّم الإسلام على المسلم أن يجفو أخاه المسلم، أو يقاطعه، أو يعرض عنه. ولم يرخّص للمتشاحنين إلا في ثلاثة أيّام حتى تهدأ ثائرتهما. ثمّ عليهما أن يسعيا للصلح والصفاء والاستعلاء عن نوازع الكبر والغضب والخصومة. فمن الصفات الممدوحة في القرآن. (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (المائدة/54). قال (ص): "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. (أي ثلاثة أيّام) فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلّم عليه، فإن ردّ عليه السلام فقد إشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة".
وتتأكّد حرمة القطيعة إذا كانت لذي رحم أوجب الإسلام صلته، وأكّد وجوبها ورعاية حرمتها قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1). وقد صوّر الرسول (ص) هذه الصلة ومبلغ قيمتها عند الله فقال: الرحم معلقة بالعرش تقول: "من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله".
وليست صلة الرحم الواجبة أن يكافئ القريب قريبة صلة بصلة وإحساناً بإحسان فهذا أمر طبيعي مفروض إنما الواجب أن يصل ذوي رحمه وإن هجروه قال (ص): "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها".
هذا ما لم يكن ذلك الهجران وتلك المقاطعة لله وفي الله وغضباً للحقّ فإنّ المقاطعة لله وفي الله وغضباً للحقّ مطلوبة، لأنّ أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
وقد هجر النبيّ (ص) وأصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك خمسين يوماً حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلّمهم أو يحييهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم.
أما إذا كان الهجران والتشاحن لدنيا في الدنيا لأهون على الله وأهون على المسلم من أن تؤدي إلى التدابر وتقطيع الأواصر بين المسلم وأخيه. كيف وعاقبة التمادي في الشحناء حرمان من مغفرة الله ورحمته.
ومن كان صاحب حقّ فيكفي أن يجيئه أخوه معتذراً، وعليه أن يقبل اعتذاره وينهي الخصومة ولا يجوز له أن يرده ويرفض اعتذاره. وإذا كان على المتخاصمين أن يصفيا ما بينهما وفقاً لمقتضى الأخوة فإنّ على المجتمع واجباً آخر. إنّ المجتمع الإسلامي مجتمع متكافل متعاون متضامن، فلا يجوز له أن يرى بعض أبنائه يتخاصمون أو يتقاتلون ثمّ يقف منهم موقف المتفرج تاركاً النار تزداد إندلاعاً والخرق يزداد إتساعاً.
إنّ على ذوي الرأي والمقدرة أن يتدخّلوا لإصلاح ذات البين متجردين للحقّ مبتعدين عن الهوى كما قال تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 10). وقد بين النبيّ (ص) في حديثه فضل هذا الإصلاح وخطر الخصومة والشحناء فقال: "ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنّها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".
وقد حرّم الله سبحانه وتعالى في الآيات التي ذكرتها جملة تصرفات ليصون الأخوة وما توجبه من حرمة للناس.
وأوّل هذه التصرفات، السخرية بالنّاس. فلا يحل لمؤمن يرجو الدار الآخرة أن يسخر من أحد من الناس أو يجعل من بعض الأشخاص موضع هزئه وسخريته وتندّره ونكاته.
ففي هذا كبر خفي وغرور مقنع واحتقار للآخرين، لذلك قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ...) (الحجرات/ 11). فقد يكون من تسخر منه في الدنيا خيراً منك عند الله. فقيمة الإنسان عند الله ليس بشكل جسمه ولا بلونه ولا بلباسه ولا بجاهه ولا بسلطانه. ولا بتصفيق الناس له وإحاطتهم به. بل قيمته في إيمانه وتقواه. قال (ص): "رُبَّ أشعث أغبر لو تمنى على الله لأبرَّه".
فهل يجوز أن تسخر من رجل أو امرأة لعاهة في بدنه أو آفة في خلقته لا يد له فيها. ومن أي شيء تسخر والله هو الخالق وهو الرزاق. ولو شاء لجعلك مكان من تسخر منه.
وقد حكى القرآن عن مجرمي المشركين. كيف كانوا يسخرون من المؤمنين الأخيار. ولاسيّما المستضعفين منهم كبلال، وعمار وكيف ستنقلب الموازين يوم القيامة فيصبح الساخرون في موضع السخرية والاستهزاء قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (المطففين/ 30-34).
وثاني هذه المحرمات هو اللمز ومعناه. الوخز والطعن فكأن من يعيب النّاس إنما يوجه إليهم وخزة بسيف أو طعنة برمح بل ربّما كانت وخزة اللسان أشد وأنكى من وخزة السيف.
وقد قيل:
جراحات السنان لها إلتئام *** ولا يلتئم ما جرح اللسان
(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). أي لا يلمز بعضكم بعضاً. والقرآن يعبّر عن جماعة المؤمنين كأنّهم نفس واحدة لأنّهم جميعاً متعاونون متكافلون فمن لمز أخاه فإنما يلمز نفسه في الحقيقة لأنّه منه وله.
ومن اللمز المحرّم بالألقاب وهو التنادي بما يسوء منها ويكره مما يحمل سخرية ولمزاً. ولا ينبغي لإنسان أن يسوء أخاه فيناديه بلقب يكرهه ويتأذى منه. فهذا عدوان على الأخوة ومنافاة للأدب. والذوق الرفيع.
اللّهمّ علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا يا رب العالمين. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق