◄إنّ التغير الاجتماعي أصبح من الأمور الثابتة والظواهر التي لا يحتاج إثباتها إلى أدلة كثيرة حيث إنّ هذه الظاهرة يدركها الباحث المتخصص ويدركها الإنسان العادي إذا أمعن نظره في أحوال المجتمعات من حوله. إلا أنّ معرفة الأسس التي تتم عليها تلك التغيرات في النفس الإنسانية وفي المجتمعات البشرية لا يزال يكتنفها كثير من الغموض والخفاء، وليس ذلك الغموض والخفاء من نصيب عامة الناس فقط، بل إنّ بعض الباحثين والمهتمين بدراسات التغير على جانب من ذلك الغموض الكلي أو الجزئي، وما ذلك إلا بسبب الاختلاف المنهجي في البحث، فإذا كانت المنطلقات مختلفة فلا غرابة إذا اختلفت النتائج.
فإذا كان بعض الباحثين ينطلق من مسلمات ترى أنّ القيم الاجتماعية مصدرها الفرد ستكون نظرته مختلفة – كثيراً أو قليلاً – عن النظرة الأخرى التي ترى المجتمع صانع تلك القيم، وسيختلف الإثنان عن نظرة من يرى أنّ مصدر تلك القيم من خارج الفرد والمجتمع.
ومع هذا الاختلاف أمور هامة بين الباحثين إلا أنّ الجميع – تقريباً – يدرك أهمية النفس الإنسانية وتأثيرها في التغير والثبات وكذلك الواقع الاجتماعي ومستوى التماسك بين أفراد ذلك المجتمع.
ولذلك ندرك أنّ الأسس النفسية للتغير الاجتماعي موضوع بحث لدى دارسي التغير يصلون فيها إلى نتائج توضح الأهمية الكبيرة التي تنالها تلك الأسس لدى الباحثين.
فالمعلومات التي تعتبر أساساً للأفكار تدرك من قبل الفرد وتخضع تلك العملية (الإدراك)، في المراحل المختلفة التي تمر بها لظروف نفسية لدى الفرد وظروف اجتماعية يكون لها تأثير كبير في تحقق الإدراك وما يتبعه من مراحل تكوين المعرفة، (بعد ذلك قد يقوم العقل بتخزين هذه المعلومات الجديدة لدعم وتأكيد معلومات واعتقادات سبق تخزينها أو الإضافة إليها، ومن ناحية أخرى، فقد يقوم العقل بتغيير الاعتقادات والآراء السابق تخزينها بناء على هذه المعلومات الجديدة) فهذه هي العملية التي تتم بواسطة العقل البشري لتكوين ودعم وتصحيح المعلومات عن الأشياء أو الأشخاص والمواقف وتخزينها في الذاكرة لاستخدامها عند الحاجة إليها في مواقف مستقبلية.
فالإدراك عملية عقلية تخضع لأسس نفسية متغيرة تؤثر في مستواه سواء كان الفرد يقوم بعملية اتصال ذاتي أو يتصل مع غيره وسواء كان في دورالمرسل أو المستقبل (والعوامل النفسية هي متغيرات وعوامل سيكولوجية ذات دلالة وتؤثر على الاستجابة لعملية الاتصال وبالتالي على السلوك، وترتبط هذه العوامل بأنماط الحياة التي تنمو من خلال عضوية الجماعات، والخلفيات الثقافية للأفراد، وأنواع ومستويات التعليم). وهذه العوامل وإن لم تكن من مكونات النفسية الفردية لكنها جزء من المحيط المؤثر في الفرد ومدى استجابته للمثير ومن ثمّ الإدراك والتأثر (وقد استخلص علماء النفس أنّ عملية الإدراك ليست عملية تحويل المنبهات إلى مضامين ذهنية مطابقة لها تماماً).
ذلك لأنّ الرسالة التي يتم استقبالها يتم ربطها بالرسائل الأخرى المشابهة التي تم استقبالها في الماضي، وبالرسائل والمواد الأخرى المتصلة بالشيء أو الشخص أو الموقف. هذه المعلومات كلها تستخدم في عملية تفسير وفهم والرسالة الجديدة. وكنتيجة لذلك فإنّ الفرد قد يهمل أو يركز على بعض أجواء الرسالة دون غيرها، كذلك فإنّه يقوم بعملية الربط ووضع المعلومات الجديدة في أنماط معينة ومن ثمّ فإنّ الرسالة التي ينتهي الأمر بالفرد أن يستقبلها قد تكون مختلفة تماماً عن الرسالة التي يستقبلها فرد آخر تعرض لنفس المنبه) وهذا يوضح مدى استقلالية الفرد في إدراكه لمختلف المنبهات وما ذاك إلا بسبب اختلاف التكوين النفسي من فرد لآخر ومع هذا الاختلاف النفسي بين الأفراد فإنّ المسؤولية الفردية في الإسلام تبنى على أساس أنّ الفرد مسؤول عن صلاح نفسه وفسادها بل إنّ الخير والشر في مستقبله مرتبط بإصلاح نفسه أو إهمالها وتركها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10)، وقال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 123-126)، وهذه المسؤولية الفردية الملقاة على عاتق كلِّ فرد من أفرادِ المجتمع لا تعفيه من المسؤولية الاجتماعية العامة حيث أنّ صلاح المجتمع يتطلب الجهد الجماعي ولا يكفي فيه مجهود الأفراد المنعزلين عن بعضهم بل إنّ صلاح الأفراد وحده لا يكفي ما لم يكن لديهم وضوح رؤية لمعنى تماسك البناء الاجتماعي على أسس سليمة ومعرفة السنن الاجتماعية التي جعلها الله سبباً لقوة المجتمع وتمكينه أو ضعفه وهلاكه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرّعد/ 11)، إنّ التفسير الحقيقي لهذه الآية يرينا (العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى تماسك الأُمّة أو تتسبب في انحلالها، وإننا الآن نعلم أنّ الطريقة الوحيدة لضمان استمرار نعم الله هي اتباع الطريق الذي اختاره الله لعباده وأيّة أمة تنحرف عن الطريق من المؤكد أنها سوف تصاب بالضعف إن لم تصب بالهلاك التام. ولن تستطيع أي ثروة أو أي معرفة دنيوية أو قوة مادية – من أي نوع أن تنقذها من ذلك المصير المحتوم) إنّ الجسم الاجتماعي أو كيان الأُمّة يخضع لقوانين يمكن كشفها وتسخيرها لصالح المجتمع... إنّ الذي عرف قوانين المجتمع، يمكن أن يستخدم وسائل مختلفة لقياس صلابة المجتمع، وسلامة شبكة علاقاته، كما يمكن أن يستعين بمختلف التحاليل التي يجريها على الأحكام التي يصدرها المجتمع على تفسير الأحداث ليحد نوع الخلل الذي يعانيه المجتمع. إنّ الخبير بسنن المجتمعات، يمكنه أن يدرك ويتخذ إجراءات في تغيير نظرات المجتمع، ويفرض نظام الحمية على الأغذية الفكرية التي يتناولها، لما تحمل هذه الأغذية من جراثيم فكرية تعطل قوى المجتمع وتماسكه. وكما يمكن استخدام الحجر الصحي لإيقاف الأوبئة في مستوى المرضى الصحي، يمكن استخدامه في مستوى المرضى الاجتماعي، كما يمكن إعطاء اللقاحات والمناعات الفكرية ضد أفكار مرضية.
ندرك أنّ الأسس التي يقوم عليها التغيير في الأنفس وفي المجتمعات بينها من الترابط والتداخل الشيء الكثير لكن لكلِّ منها استقلالها وتميزها وإن كان التأثير التبادلي بينها حقيقة ملموسة فصلاح الأفراد واستقامتهم على قيم وقوانين مجتمعهم تؤدي إلى تماسك ذلك المجتمع أو تكون أحد أسباب تماسكه كما أنّ التماسك الاجتماعي يؤدي إلى صلاح الأفراد وقوتهم.
إنّ النفس الإنسانية مدخل هام وأساس لكلِّ تغيير سواء على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة وإنّ معرفة العوامل التي تؤثر في "إدراك" الأفراد للمعلومات وللتنبيهات الاجتماعية المتعددة التي يتلقونها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، تؤثر وتشكل استجاباتهم ومشاعرهم المختلفة، وبالتالي تؤثر في كفاءة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وفي وجهة التأثر بالآراء والأفكار، وفي أنماط السلوك التي يمكن أن تصدر عنهم استجابة لما يدركون من خلال مواقف التفاعل الاجتماعي وإذا كان هذا دور النفس الواحدة أو الفرد داخل المجتمع فإنّ مسؤوليته الفردية يضاف إليها واجبه التضامني مع الآخرين من أفراد مجتمعه الذين يتبادل معهم التأثر والتأثير.
وعندما نلاحظ تمييز المجتمع المسلم عن غيره من سائر المجتمعات الإنسانية بمصادره الدينية المختلفة عن كلِّ ما لدى المجتمعات فإنّ مسؤولية هذه الخصوصية الدعوة إليها والأمر بها والتفاعل مع المجتمع بناء عليها (وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلابدّ أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر) ولا شك إنّ ذلك الأمر يكون بالمعروف وأنّ ذلك النهي يكون عن المنكر لأدلة الشريعة من القرآن والسنة الموجبة لذلك. فلا صلاح للمجتمع إلا بوجود ذلك الواجب ولا فساد في المجتمع إلا عند التهاون في القيام به ونظراً لاتساع المجتمعات وسهولة الاتصال وكثرة المؤثرات فإنّ التداخل بين المعروف والمنكر واختلاط الأمور في تمييز المنكر من المعروف بل وانقلاب المنكر لدى البعض إلى معروف وبالعكس أصبح واضحاً جلياً، مما يوجب التبصر والنظر بمقاييس صحيحة لا تخطئ، ولا مقاييس عندنا غير مقاييس الشريعة (وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنّه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فإنّ الأمر والنهي – وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة – فينظر في المعارض له. فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته... لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام).
وكما أنّ بني آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، فإنّ الأمر والنهي من لوازم وجودهم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله وإلا فلابدّ من أن يأمر وينهي، ويؤمر وينهى: أما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحقّ الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك ديناً كان ديناً مبتدعاً ضالاً باطلاً... فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملاً صالحاً لوجه الله وإلا كان عملاً فاسداً أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (الليل/ 4)، وهذا الباطل إذا انتشر في الأُمة ولم تتصد له بالأمر بالمعروف ومحاربة المنكر والتصدي له أوشك الله أن يعمها بعذاب من عنده وتلك سنة الله الماضية ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وهذه السنة لا تخص المسلمين دون غيرهم بل هي سنة الله في كلِّ المجتمعات كلما أهلك الله أُمّة من الأُمم الماضية ذكر سبب هلاكها وأنذر بها وذكر بالسنة الكونية الماضية، بل وفي مجال تحذير أهل المدينة في مجتمع الرسول (ص) ورد التذكير بتلك السنة في قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 60-62). فسنة الله ماضية بإهلاك المجتمعات التي تكوّن نفوس أفرادها بعيدة عن مراد الله ومنطوية على خداع الله وخداع المؤمنين.
فبناء المجتمعات وتأسيسها مبني على صلاح نفوس الأفراد وتربيتهم على الاستقامة على منهج الله وإنّ الانحراف الذي يصيب الأفراد بتغير ما في نفوسهم لا يكون عقابه فردياً يوم القيامة وحسب بل يعجل الله العقوبة للمجتمع كلّه ولذلك كان جواب الرسول (ص) عندما سُئل أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث.
فخبث النفوس وفسادها مؤذن بهلاك المجتمع، وتلك سنة الله الماضية ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ومن الأمور التي جعلها أساساً لاستقرار المجتمعات العدل (فأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم: ولهذا قيل: إنّ الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة: ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقال النبيّ (ص): "ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم" فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة وذلك أنّ العدل نظام كلّ شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).►
المصدر: كتاب التلفزيون والتغير الاجتماعي في الدول النامية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق