• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأعصاب ومشكلة تحقيق الذات

خليل حنا تادرس

الأعصاب ومشكلة تحقيق الذات

◄أن مَن يحيا نصف حياة فكأنه نصف ميت

وإذا دققنا النظر في الناس وجدنا مئات الآلاف منهم يقومون بأعمالهم اليومية المعتادة في البيت أو في المهنة أو في المجتمع وكأنّ الحياة عملية آلية محض. فهم في حقيقة الأمر مثل الدمى "أراجوز" لديهم القدرة على الابتسام والحركة والعبوس، ولكنهم خالون من العاطفة، فالحياة تحركهم كما يجذب صاحب الأراجوز خيوط الدمى ودورهم في الحياة سلبي خالص.

والعصابي فما هو إلّا دمية لا تتمرد أبداً على مَن يملك زمامها، فهو عبد على كلّ حال، وشعوره بالتعاسة دائم في جميع الظروف، لأنّه محروم من تحقيق ذاته بعمل إيجابي، ولا يتمرد أبداً على سلبيته ليقول مثلاً:

- كلا. أريد أفعل هذا لا ذاك!

وليس معنى كلامنا المتقدم أنّ جميع العصابيين محرومون من الملكات الإبداعية، بل مرادنا أن نقرر أنّ معظمهم من هذا القبيل، ولكن هذا لا يمنع أبداً أن تكون هناك فئة من العصابيين لها أجزل الفضل وأعظم الأثر في الحضارة البشرية بفنونها وعلومها وآدابها.

فهؤلاء العصابيون دون غيرهم هم الذين وهبوا الإنسانية – على حد قول مارسيل بروست – كلّ ما هو عظيم وجليل من روائع الفنون. ولكن لن يستطيع أبناء هذا العالم أن يدركوا تمام الإدراك فداحة الثمن الذي أداه هؤلاء العباقرة من أعصابهم وتعاستهم وعذابهم كي يهبوا الإنسانية ذلك التراث العظيم. فنحن نستمع في نشوة خارقة إلى الموسيقى العظيمة، ولا يجول بخاطرنا ما كلفته واضعها من دموع وأرق ونوبات ضحك عصبي وأزمات التنفس، ونوبات الصرع والفزع.

وما أحرانا أن ندهش أعظم الدهشة لو أدركنا ما وراء المظهر الهادئ المتزن الذي يظهر به الكثيرون من حولنا، من اختلال عصبي ووسواس مرضي في نهايته القصوى.

وأن أتعس إنسان في الحياة لهو ذلك الموسوس، فإنّه لا يهنأ له طعام ولا شراب، ولا يعرف طعام الراحة لحظة واحدة من عشرات الأعراض الوهمية. فلا يغادر الواحد منهم فراشه كلّ صباح إلّا مرغماً، لأنّه لا يتطلع إلى شيء في يومه الوليد إلّا المنغصات والنكد. وهو يكره عمله الذي يقوم به، وليس له اهتمام بأحد بعد أن قطع جميع صلاته بأصدقائه، لأنّه ليس لديه فضلة من الاهتمام والانشغال بغير نفسه. فهو يعيش في جزيرة في قلب بيته وأُسرته. والزوج والولد بعيدون عن قلبه وذهنه، فكلّ ما يشغله من أوجاعه وآلامه.

فمثل هذا الإنسان تستطيع صادقاً أن تقول عنه أنّه يعيش نصف حياة، أو أقل من النصف، أي أنّه نصف ميت، أو أكثر من النصف. فتلك صورة واضحة من صور الانتحار أو قتل النفس بحرمان الحواس من الاستمتاع بكلّ ما تهيؤه لأبنائها من لذات.

- هيا بنا الليلة إلى المسرح يا جون

- دعيني وأذهبي، فإنّ قلبي قد عاد إلى الشغب

- هيا بنا نزور آل فلان هذا العصر يا ماري

- لا أظن أنّني استطيع يا سام، فإنّ معدتي تؤلمني فإذا كررنا هذه المحاولات القصيرة آلاف المرات في كلّ مناسبة برزت أمامنا صورة تقريبية للحياة مع موسوس أو موسوسة.

ويعتقد كثيرون من الأخصائيين أنّ هذه الحالات العصابية أشيع وألصق ما تكون بالحياة الأمريكية على الخصوص.

وليست جميع حالات العصابيين ذات أعراض ظاهرة، فقد تكون جالساً في مطعم وتلمح رجلاً أنيقاً وسيماً متزناً فتتساءل من عسى أن يكون هذا الشخص الوجيه. وربما يكون هذا الشخص الذي يبدو في غاية الاتزان والهدوء من أتعس ما يمكن في هذه اللحظة بالذات، فهو يغالب نفسه ليقاوم الدافع الذي يشعر به في أعماقه لينهض ويندفع خارجاً على الفور لغير سبب معين. فصوت السكاكين والأطباق والهمهمة الخفيفة الناشئة عن الحديث الخافت على الموائد كأنها مخالب وحش تمزق جذور أعصابه فلا يستطيع الصمود لها.

وفي كثير من الأحيان ينجح هذا المجاهد في إرغام نفسه على البقاء وإتمام طعامه الفاخر من دون أن يشعر بمذاقه الحقيقي، لأنّ حالته العصبية تدفع المرارة إلى حلقة فيجد لما يأكل طعم القش المحترق. ولكن في أحيان أخرى ينهض المسكين تاركاً طعامه وهو خاوي المعدة ليخرج من همهمة المطعم إلى ضجة الشارع، فكأنّه المستجير من الرمضاء بالنار.

هذه هي حياة أولئك الذين يعيشون في الدنيا نصف أموات، وأكثرهم يتمنون لو كانوا أموات حقاً وصدقاً.

وليس للذكاء دخل في هذه الحالات، ولا تأثير له في محاولة التخفيف منها أو القضاء عليها. فانفعالاتهم العصبية هي التي تتحكم وحدها فيهم فتفري حياتهم فرياً.. ويغلب على هؤلاء أن يكون بذرة الذعر أو الخوف قد تسربت إلى اللاشعور منهم في وقت طفولتهم، فنما لديهم وهم العداء، أي أنّهم يتوهمون أنّ الدنيا جميعاً تناصبهم العداوة، فتتملكهم الحدة وهم يظنون أنّهم في دفاع شرعي عن أنفسهم.

وقد تتسرب بذرة الفزع والعداء إلى نفوسهم عن طريق أب أحمق أو أُم حمقاء أو جد أو جدة أصابها الحزن. وقد تتسرب هذه البذرة أيضاً نتيجة لموقف قاسٍ في مواقف الحياة يشعر الطفل بنضوب الرحمة من هذا العالم. فينطبع ذلك الأثر في نفسية الطفل وينمو معه وينتهي بأن تصطبغ به جميع إحساساته وتصرفاته.

ومَن يدري؟ فقد يكون هذا الرجل الوجيه الذي أعجبت به في المطعم وهو يعاني تلك الحالة العصبية سلسل أب سكير، أو أُم محرومة من الحب كانت تصب على وليدها حقدها على الحياة وتبرمها بها، حتى تقطرت في نفسيته عصارة القلق فأشربتها، ثم أنبتت تلك العصارة نبات الصبار بمرور الزمن فأصبحت أشواكه لا تدع لهذا الرجل راحة ولا مستقراً.

والواقع أنّنا جميعاً نتيجة تفاعل الوراثة والتجربة، فالكائن الإنساني أشبه بالإسفنجة التي تمتص جميع الإحساسات. ولكنه يخالف الإسفنجة في أنّه لا يمكن تفريغه من هذه الإحساسات التي سبق أن أمتصها بأي حال.

فابن السبعين لو فتشت في أعماقه أشبه بمقبرة القرية أو المدينة، ولوجدت مدفوناً تحت قبر منها ما كان يبدو أنّه نسيه من تجارب اليوم الأوّل من أيام حياته. ولكن ذلك الدفين المنسي يمتاز بأنّه نشاط في عالم اللاشعور، ويدفع بصاحبه إلى اتجاهات معينة في السلوك ويصبغ شعوره بلون معين. وهذا الاتجاه وذلك اللون لا يفهم لهما الشخص سبباً لأنّهما ينبعان من اللاشعور. وقد يقاوم بعقله الواعي إيحاء اللاشعور. ومن هذه المقاومة وذلك الصراع تتحدد الحالة النفسية والعصبية للشخص: فالسعيد المحظوظ مَن يكون هذا الصراع لديه هادئاً أقرب إلى الهدنة والتحالف. والشقي المنكود مَن يكون هذا الصراع لديه ملحمة ثائرة مستمرة.

فهل أنت شقي؟ هل تشعر بفقدان التوازن دون أن تدري لاستيائك وسخطك سبباً؟

ربما كنت إذن ممن يعيشون نصف حياة لأنّك عصابي إلى حد ما دون أن تدري، ولعلّك في هذه الحالة أن تكون في حاجة ماسة إلى عون الطبيب.

ونحن الآن في زمن يتجه فيه المحلل النفسي إلى احتلال مكانه الحقّ. وأكمل طبيب في يومنا هذا هو الطبيب الذي تعلّم طب الأجسام ثم طب النفس، لأنّه قادر على أن يعالج الإنسان باعتباره وحدة متكاملة، لا مجموعة من الأعضاء المتفرقة المتناقضة والملكات المبعثرة.

والطبيب الحديث مدرك الآن تمام الإدراك أنّ السبعين في المائة ممن يلجؤون إليه مصابون في قدراتهم النفسية أكثر مما هو مصابون بأمراض عضوية، وليس ذلك داعياً للاستهانة بحالاتهم، لأنّهم في الواقع أكثر آلاماً من المرضى بأمراض عضوية. فالخوف من المرض أدعى لتنغيص الحياة من المرض نفسه أحياناً. والذي يتوهم أنّه مسلول قد يكون أشد عذاباً من المسلول، وهلم جراً.

هؤلاء هم السبعون في المائة: فزع ولا مرض، ووهم ولا داء. فما شأن الثلاثين الباقين؟

أنّهم مصابون فعلاً بأمراض عضوية، ولكنهم أيضاً لا يخلون من الفزع والخوف. ولهذا لا نبالغ حين نقول إنّه قد آن الأوان للعناية بعلاج الفزع والخوف قبل العناية بعلاج الجوارح والأعضاء، فما من إنسان يستطيع التمتع بقلبه السليم وهو يعتقد أنّ قلبه به عطب. فهو يخاف الحركة والرياضة، ويخاف الطعام والسهر والشراب والأسفار والضحك والمرح. وماذا يبقى من متع الحياة بعد ذلك يخشى أن يحرم منه مريض بالقلب فعلاً؟

 

فما العلاج لهذه الحالة؟

العلاج له طرفان، أحدهما الطبيب والآخر المريض. فعلى المريض أن ينشد طبيباً حاذقاً، ويستحسن أن يكون نفسانياً بارعاً يحل له العقدة التي تسبب له ذلك الاضطراب العصبي، وعلى الطبيب أن يشارك المريض بوجدانه ويفهم آلامه، فإنّ تلك الآلام بالنسبة له حقيقة ومروعة، وليعلم الطبيب أنّ المريض إذا يئس من مخرج يريحه من تلك الأعراض التي يعتقد في حقيقتها، فإنّ كثيراً ما يُقدم على الانتحار.

وجدير بالذكر أنّنا جميعاً عصابيون بالقوة، أي أنّ لدينا استعداداً كامناً للاختلال العصبي، وأصابتنا بذلك فعلاً رهن بحلول المناسبة التي يمتحن بها توازننا.

وهناك حالات من الاختلال العصبي لا تكون شاملة لجميع جوانب الحياة، بل تكون منحصرة في نقطة جزئية معينة.

وأذكر مثالاً لذلك حالة سيدة في التاسعة والأربعين لا ينقصها في الحياة شيء من الأولاد أو الأحفاد أو الزوج الناجح والصحّة الجيدة والحياة العائلية السعيدة، حتى أنّها تبدو فعلاً أقل من سنها عشر سنوات على الأقل. فقد جاءتني تشكو من أنّ أنفسها تراودها بشدة كلما مشت فوق كوبري أن تقفز إلى الماء بملابسها، فسألتها:

- هل أنت سباحة ماهرة مغرمة بالماء؟

- بل أني أرتعد خوفاً من الماء ولم أجرب السباحة مطلقاً فهذه المرأة نموذج لقوة الفناء وهي تحاول التغلب على قوة البقاء فيها. ولا شك أنّ هذه الحالة الانتحارية ناتجة عن الاضطراب اللازم لانقطاع العادة الشهرية.

وفعلا استطاعت بضع حبوب وهرمونات أن تنظم حالتها في مدى شهرين، فعاد إليها اتزانها وفارقها ذلك الشعور الغريب، ولو أنّها أهملت علاج نفسها – شأن الكثيرات من بنات جنسها – لقضت عل جانب كبير من سعادتها وسعادة مَن حولها.

وقد سُئلت مراراً هذا السؤال:

- كيف تعرف أنّك عصابي؟

والواقع أنّ جواب هذا السؤال ليس من اليسر والسهولة بمكان. والغالب أنّ الطبيب هو الذي يستطيع تشخيص الحالة بالضبط. ومع هذا فإنّ الشخص العادي يستطيع أن يشتم الحقيقة بغير معونة الطبيب حينما يشعر بأنّ كيانه العام ومزاجه ليسا على ما يرام لغير سبب ظاهر.

وكثيرون جدّاً من الناس لا يولدون عصابيين، بل يقضون طفولتهم ومراهقتهم وشبابهم في حالة اتزان. حتى إذا ناهزوا الأربعين لاحظوا تدريجياً أو فجأة، وربما لاحظ أصدقاؤهم أيضاً، أنّهم قد تغيروا.

فإذا حدث أنّك أصبحت شهوراً متوالية فاتر الهمة ساهماً. بعد أن كنت ذا طبيعة فوارة، فربما كنت مصاباً بمرض من الأمراض العصبية. وقد تكون الإصابة خفيفة فتتلاشى من تلقاء نفسها بعد أسابيع أو شهور قليلة، ولكنها قد تكون أيضاً عنيفة بحيث تحرمك الاستمتاع بالحياة نهائياً مدة مرضك. فإذا كنت من مدمني القراءة، وجدت القراءة وقد بغضت إليك فلا تطيق رؤية كتاب، وإذا كنت ممن يغشون المجتمعات والمجالس، أقلعت عن ذلك وأصبحت منطوياً على نفسك صموتاً. فذلك كلّه دليل لا شك فيه على أنّ آفة ما تحول دون سعادتك. وربما يكون سبب ذلك خوف حدث لك في مكان مظلم مثلاً ثم نسبته، أو ضيق بفصل بارد حدث لك في زحام أو مجتمع ثم نسيته. وربما أيضاً يكون سأمك من القراءة ناتجاً عن سأمك من الحياة كلّها. فعليك أن تحذر، لأنّ ذلك السأم قد يكون علامة على ازدياد نفوذ قوة الفناء فيك.

ويحتمل كثيراً أن يكون الفزع المسبب لهذه الحالات حادثاً على أثر مرض أو وفاة أحد أعضاء الأسرة، أو فقدان الوظيفة أو تزعزع مركزك، فذلك يؤدي حتماً إلى الشعور بالنقص، وإلى كراهة الحياة وعدم الاطمئنان إليها.

ومهما كان السبب فإنّ الطبيب قادر على مساعدتك وحل مشكلاتك النفسية. وكلّنا نعلم أنّ الكثيرين يفضلون كتمان ما بأنفسهم عن ذويهم وأصدقائهم، وذلك مما يجعل الحاجة إلى معونة الطبيب أكبر وأشد. لأنّ الاستمرار في الكتمان يزيد الحالة العصبية استفحالاً بمرور الأيام.

وأنّه لمن الحمق أن يعرض الإنسان كلّ ما حصله وبناه من أسباب السعادة في الحياة للضياع بالتسويف في علاج حالته العصبية. لأنّ كلّ يوم يمر وهو بهذه الحالة فهو يعيشه نصف حياة، أو هو فيه نصف ميت.

فاسأل نفسك من حين إلى حين هذا السؤال:

- هل أنا سعيد حقاً؟.

وإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل نفسك مرة أخرى:

- وماذا بي؟ لست أشكو من مرض عضوي معيّن.

والحل الوحيد في هذه الحالة أن تعرض نفسك على طبيب يهتم بحالتك، فإذا لم يجد لها حلاً فلعلّه أن يستعين بطبيب نفساني. والمهم على كلّ حال أن تبادر لوقف ثوران قوة الفناء التي بدأت تتغلب على قوة البقاء فيك.

وأعلم أنّ البيت الذي يضم عصابياً في حالة متأخرة لا يبقى بيتاً، بل ينقلب جحيماً لبقية أفراد الأسرة. أما بالنسبة للعصابي نفسه فإنّ البيت يكون مجرد مكان يأوي إليه، لا حلاوة فيه ولا سكينة للنفس ولا اطمئنان ولا حنان. وإنّ مثل هذا البيت لهو أحسن بيئة تنمو فيها جراثيم الانتحار بنوعيه: الحاسم والمزمن البطيء.

فإذا وجدت في نفسك تغيراً وسأماً من الحياة وأعراض عنها فإياك أن تتردد في زيادة طبيب نفساني. وإني أعلم أنّ الكثيرين ينظرون إلى ذلك نظرة غير صحيحة، فالطبيب النفساني عندهم هو أوّل عتبة من عتبات الماريستان. ولكن الزمن بدأ يتغير بحمد الله، وأصبحنا نقترب بخطى واسعة من الوقت الذي يقول لك فيه الشخص:

- أني خارج تواً من عيادة التحليل النفسي.

باللهجة التي يقول بها لك أنّه خارج من عند "الترزي".►

 

المصدر: كتاب فن التعامل مع الناس

ارسال التعليق

Top