على حافة الجرف الصخري المحاذي للبحر، وقف المهندس الأربعيني سعيد وجسمه يميل نحو الهاوية. وحدها يده التي تمسكت بشجيرة بقيت تمنع عنه الموت. أصابعه المتمسكة بغصن الشجيرة تمانعه، وهو يحاول أن يغلبها حتى يهوي وتنتهي عذاباته. نظر إلى الماء والصخور تحته، وتصوّر لحظة الموت القاسية، ولكنه رغم ذلك لم يعد يريد أن يستمر في هذه الحياة... لقد خسر كلّ أمواله على طاولة القمار.
أغمض عينيه وعزم "سأدفع جسمي بقوة الآن... لن تتمكن أصابعي من التمسك وسأرتاح... مهما يكن بعد ذلك لن يكون أسوأ مما أعيشه".
- "لا تقفز، على مهلك" فاجأه صوت من جانبه، من وراء شجيرة، تقدم رجل ستيني يلبس نظارات سوداء قاتمة وهو على قدر كبير من الأناقة وأردف قائلاً: "لا تقفز سأعطيك كلّ ما خسرته".
- ماذا؟ يا عم أرجوك لا تصعِّب الأمر عليّ، أنت لا تعرف كم خسرت، إنّه جنى عمري.
- "مهما كان الذي خسرته فسأرده إليك"، رد عليه الرجل ذو النظارات بثقة العارف.
- وسترده إلي مقابل ماذا؟ لم يعد عندي شيء أبادلك به.
- بل لديك ما أريد، وهو معك الآن.
استعاد المهندس سعيد توازن جسده وتقدم نحو الرجل الستيني خطوة، وكأنّه بدأ يأخذ كلامه على محمل الجد:
- وما هو هذا الشيء يا عم؟
- عيناك.
صُدم سعيد لطرح الرجل، لكنه لما التفت إلى العصا بيده أدرك أنّه على الأغلب أعمى، وأنّه بالفعل ربما يحتاج إلى عينين لكي يرى.
- "عيناي! تريد أن تأخذ عيناي؟" أي طرح هذا؟ أجاب سعيد بعصبية.
- وما المانع؟ لو لم أستوقفك لكان السمك يأكلهما الآن.. أنا أحق بهما.
- معك حقّ في هذا، ولكن أي حياة سأعيشها من دون عينين؟
- ستكون مثل الحياة التي عشتها أنا طوال 63 عاماً، وهي حياة أفضل من حياتك، لأني على الأقل لا أريد أن أنتحر.
ضحك سعيد ضحكة مَن يتلوى من آلام القدر، ولكن الرجل نجح في أن يقنعه بأنّ هناك ثغرة ما في حساباته، فدعاه للجلوس على مقعد قريب مواجه للبحر.
- حسناً... إذا كنت أعمى بالفعل، فكيف وجدتني؟
- بسيطة، الكازينو وراءنا والهاوية أمامنا، وللقانط من رحمة الله لهاث استطيع تمييزه.
- حسناً، سأكمل معك، يبدو أنّك تريد عيناي لكي تستطيع أن ترى.
- بالضبط، ويجب أن تُنتزع العينان من شخص على قيد الحياة وإلّا فلن تنفعاني.
- "ماذا لو ساءت حياتي أكثر بعد أن تُقتلع عيناي؟"، تساءل سعيد بجدية بالغة.
- لن تخسر شيئاً وسترجع إلى حيث أنت الآن، سأحضرك إلى هنا وسأدفعك بنفسي إن أردت المساعدة.
- ضحك سعيد قائلاً: حسابياً ما تقوله صحيح، فميّت بلا عينين يتساوى مع ميت بعينين، ولكن قبل أن أعطيك جوابي النهائي أريد أن أعرف أكثر عنك، هل ولدت أعمى يا عم؟
- نعم ولدت أعمى، ولعلمك يا بني، نحن نتصوّر الأشكال في أذهاننا بشكل مشابه لما هي بالحقيقة، مع أننا لم نرها أبداً، فهذا المقعد مثلاً، له صورة دقيقة في ذهني بنيتها من التلمس، ولكن الشيء الوحيد الذي لا نعرفه هو الألوان.
- ولكنك يا عم تدير حياتك بشكل جيد وقد بلغت عتياً، فلماذا تريد أن تخسر مالك؟
- "ربما لن يغير النظر الكثير في حياتي، فأنا تعوّدت عليها ولكن... الألوان..." تنهد الرجل عميقاً، ثم تابع:
- قالوا لي إنّ السماء شاسعة ولونها أزرق فيروزي جميل، وأنّها على عظمتها واقفة بغير عمد.
- ممم، هي كذلك، إنّها بالفعل شاسعة بشكل كبير.
- وقالوا لي إنّ البحر واسع لا متناه، ذو لون لازوردي، وفوقه أمواج تتراقص أبداً بلا تعب.
- الأمواج، نعم، ترى لماذا لا تهدأ؟
- وقالوا لي إنّ بين البحر والسماء هناك الطير صافات ويقبضن... وما يمسكهن إلّا الرحمن.
- كم هو جميل انزلاق النورس في الهواء.
- وقالوا لي إنّ الشمس كوكب دري لا تقدر أن تنظر إليه لشدة سطوعه، وأنّها عند المغيب تتحول إلى قرص أحمر كبير تلتذ به عيون الناظرين، وأنّها تسقط في البحر رويداً رويداً.
- إنّها تغيب الآن وقد ابتلع البحر أكثر من نصفها... لونها يأسر الألباب.
- وقالوا لي إنّه كلّ يوم عند المغيب ترتسم في الأفق لوحة جديدة في الغيوم، يتدرج فيها الضوء بالسطوع، وتتداخل فيها الألوان، فتتمازج في ألوان جديدة.
- يا إلهي وكأنك ترى! بل في الواقع كأنّك ترى أفضل مني، فأنا لم أكن أنتبه لكلّ ذلك، أو ربما أراه لكنني تعوّدت عليه. التفت الرجل الأعمى وكأنّه ينظر إلى سعيد وسأله بحماسة شديدة: "قل لي يا بني هل ما تراه جميل؟".
- جميل جداً يا عم.
- وهل يحرمك ما خسرته اليوم من رؤية هذا الجمال؟
- أبداً، لا أعرف ما جرى لي، عجيب، من بضع دقائق كنت كارهاً لكلّ هذه الدنيا، والآن اختلف الأمر.
- الأمر عادي... كنت مقتولاً وها قد رجعت أولى أنفاسك... ربما أنّ خسرانك لمالك قد يكون أكبر نعمة حصلت عليها، الآن تستطيع أن تبدأ باستعادة حياتك. "مَن استكثر المال هو كالصبي الذي يأخذ الحية ليلهو بها فتقتله، ولكن قتيل الحية يعرف أنّه قتيل، وقتيل المال لا يدري بحاله".
- قتيل! بالفعل، ولم يكن سقوطي إلى الهاوية ليغير الكثير، أنتَ موهوب يا عم، كلماتك كانت موفقة وأصابتني في صميمي، ربما كنت أحتاج إليها وساعدك التوقيت.
ساد الصمت للحظات وسعيد مستغرق بأفكاره، محاولاً أن يفهم ماذا يجري، ثم أكمل:
- أنا آسف يا عم، لن استطيع أن أعطيك عيناي، ولكن بطريقة ما أظنك لم تُردهما منذ البداية، أظنك أردت شيئاً آخر.
- أتعلم بني، أنا أظن أنّ رؤية الألوان أمر جميل، ولكن هناك أمر أعظم وألذ.
- وما هو؟
- أن تحيي إنساناً بعد موته، أن تكسر تلك القشرة المتراكمة التي تحجب النور فتضيء نفساً مظلمة.
- إنّ لهذا الأمر لذة لا استطيع وصفها.
- أتقصد أنّ مساعدتك لي تبهج نفسك؟
- الأمر أكثر من ذلك. عندما تجبر قلباً كسيراً، هو قلبك الذي يحيا أو جزء منه على الأقل، ليس أن ما تحس به من حبور هو نتيجة لما فعلته، لا ليس كذلك، بل هو شيء واحد: ما يحدث لك يحدث أيضاً لي، نحن لسنا منفصلين كما نظن. وعندما تحس بذلك الوصال فسينتابك شعور رائع لن تريد بعده أن ترجع إلى نفسك أبداً.
- ممم... أظنها ليست كلماتك قط تلك التي أنقذتني... في الأمر أكثر من ذلك.
- نعم في الأمر أكثر من ذلك بكثير.
في اليوم التالي شوهد سعيد مع العجوز على المقعد نفسه، ولأيام طويلة بعدها ظلا يظهران معاً، ثم شوهد بعد ذلك رجال آخرون مع العجوز على ذلك المقعد وحوله. ولسنين مرت، لوحظ أنّ حالات الانتحار من على ذلك الجرف قد خفت بشكل كبير، بعد أن كانت شبه يومية. وعندما توفي العجوز، تساءل أفراد عائلته عن العدد الكبير من الغرباء الذين حضروا الجنازة، رجال لا يجمع بينهم شيء إلّا أنّه كان لهم ماضٍ مضطرب. وبعد تشييعه، تلاقى هؤلاء الرجال وتعاهدوا على أشياء غير معروفة، ولكن يقال إنّهم أسسوا جمعية سرية. وبعد ثلاث سنوات من وفاة العجوز أفلس الكازينو وترددت أخبار غير مؤكدة عن مسؤولية تلك الجمعية عن حرمان الكازينو من رواده.
ولكن الأكيد أنّ أولئك الأغراب الذين حضروا جنازة العجوز عاشوا بقية حياتهم معاً، على ماذا اجتمعوا وما الذي ربطهم؟ يبدو أنّ لهم قصة تستحق أن تُعرف.
المصدر: مجلة العربي/ العدد 683 لعام 2015م
القاص من لبنان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق