• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأمر بالعدل والإحسان

عمار كاظم

الأمر بالعدل والإحسان

يقول تعالى في كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90)، للعدل مساحته الواسعة في العلاقات الإنسانية، الكلمات والمواقف، ففي كلِّ موقعٍ من مواقع الحياة عدلٌ وظلم، ولم يؤكد الإسلام على شيءٍ كما أكّد على العدل، فقد اعتبره الهدف الكبير لجميع الرسالات الإلهية.

وقد تحدّث عنه في الكلمة العادلة التي لا تحابي أحداً حتى لو كان ذا قربى، وفي الموقف العادل، حتى إذا كان لمصلحة العدو ضد الصديق، والحكم العادل لكلّ إنسان، وفي أيّ موقف، بعيداً عن صفته الدينية وموقعه الاجتماعي، وانتمائه الجغرافي والقومي والعرقي، ذلك أنّ المرجع الوحيد في هذا الشأن هو الحقّ الذي يمتلكه صاحبه. فيجب أن يُعطى صاحب الحقّ، حتى لو كان كافراً، أما من عليه الحقّ، أو من ليس له حقّ، يخضع للحقِّ، حتى لو كان مسلماً، وهذا هو شعار الدنيا، كما هو شعار الآخرة في قوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر/ 17).

لعلّ أهمية تأكيد الإسلام على العدل كقيمةٍ إنسانيةٍ عامّة، أنّه يريد للإنسان أن يعيش العدل في نفسه كإحساس وشعور، وأن يرفض التعاطف مع الظالم، وإعانته، لأنّه يسعى لإدخال العدالة في التركيبة الشخصية للإنسان المسلم التقي الذي يصنعه، لذا فهو يرفض الظلم كإحساس كما يرفضه كموقف.

وللإحسان أهمية كبرى من الناحية الإنسانية، فهو الأسلوب العملي في تقديم الخير للآخرين، من موقع الحقّ الذي يمتلكونه في ذاك الخير، أو من موقع العطاء الذاتي. فإنّ الله يريد أن تنطلق العلاقات بين الناس على أساس حبّ الخير وروح العطاء، فقد أكّد الإسلام في أكثر من آية على أنّ لصاحب الحقّ أن يأخذ حقّه، ولكنّه أحبَّ للإنسان من موقعه كصاحب حقّ أن يعفو ويسامح ويتنازل، على أساس الإحسان.

وربما كان هدف التقارن بين العدل والإحسان، من أجل تأكيد الحقّ لصاحبه وتركيز العدل على أساسٍ ثابتٍ في التشريع من جهة، ومن أجل تخفيف النتائج القاسية للعدل بإفساح المجال للإحسان لكي يخفف من حدّته، بحيث يتحقق التوازن في حياة المجتمع وفي بناء الشخصية الإسلامية على أساسٍ من العدالة والتسامح. (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)، وهو العطاء لمن تربطهم بالفرد صلة قربى، باعتبارهم الخلية الأقرب إليه، كخطوة عملية تمهد لتوسيع دائرة مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية في الدوائر الاجتماعية الأبعد، إذا ما توافرت له الإمكانيات. ولعلّ هذا الأسلوب أكثر واقعية من الدعوة إلى احتواء المجتمع كلّه، في الشعور بالمسؤولية، لأنّ تنفيذ ذاك الاحتواء أمر متعذر عملياً، وبالتالي فإنّ تحديد مسؤولية الإنسان في دائرة قرابته، ليس نوعاً من أنواع تأكيد العصبية العائلية، بل تدبيراً قائماً على الملاءمة بين إمكانات الواقع والتشريع، بحيث يمكن الانطلاق منه في تعميق روح العطاء من خلال مشاريع تكافلية أوسع على مستوى الوضع العام لعلاقاته الاجتماعية الأخرى الواسعة. (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي من الخطوط الأخلاقية العامّة التي تقع في الجانب السلبي من بناء الشخصية الإسلامية، وهي عناوين تلتقي معاً في أكثر من مصداق خارجي، على الرغم من اختلاف الجانب الذي ترتبط به في واقع الإنسان الذهني والنفسي والعملي، فالفحشاء تمثل الأفعال والأقوال القبيحة التي تتجاوز العرف، وتقتحم المستور من حياة الناس وعلاقاتهم، على المستوى الجنسي خاصّة، وتمس شرفهم الشخصي أو العائلي.

أما المنكر، فيطلق على ما يقابل المعروف، وبذلك فإنّ مضمونه هو الفعل أو القول الذي يستنكره الناس لقبحه، أو لمفسدته، أو لضرره، وما إلى ذلك. ولعلّ من الطبيعي أن يستلزم هذا المضمون دخوله في دائرة ما ينكره الله شرعاً وما يريد للناس أن ينكروه في واقعهم، استناداً إلى المبررات الفعلية لذلك، سواء تعارفوا على إنكاره ضمن مقاييسهم تلك أم لا.

أما البغي، فالمراد به العدوان بالكلام أو الفعل على الناس ظلماً، سواء تم ذلك في دائرة العلاقات الخاصّة، أو العامّة، وسواء طال حياتهم الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرها من المجالات حيث تتوسع حقوق الناس لتتمثل في حقِّ الأُمّة في الحكم العادل، وحقِّ الإمام العادل في طاعة الأُمّة له، وحقِّ الناس على بعضهم البعض في الأمور المتصلة بأوضاعهم القانونية أو الشرعية والأخلاقية.

فيتحوّل كلّ انتقاص من هذه الحقوق، أو اعتداء عليها، إلى عنوانٍ للبغي وللظلم وللعدوان. وهكذا يريد الله للناس أن يلزموا خط العدل ويجتنبوا خط الظلم، ويلتزموا بالإحسان للناس جميعاً ولاسيّما ذوي القربى، ويبتعدوا عن كلِّ ما يسيء إلى نظافة العلاقة أو العمل أو الكلمة أو الواقع وعن كلِّ ما ينكره الذوق والعرف المتحرك في خط الشرع، ويمتنعوا عن البغي والعدوان في أيّة حالةٍ من الحالات، وفي أيّ موقع من المواقع على جميع المستويات، وتلك هي موعظة الله للناس (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ذلك أنّ الموعظة تمثل تذكيراً بالقضايا المهمّة التي تنظر حياة الناس بإيجابياتها في نطاق ما يرضي الله، وتواجههم بسلبياتها في نطاق ما يسخطه. ومهمتها استحضار وعي الإنسان، وإحساسه بالمسؤولية تجاه الدنيا والآخرة بشكل دائم.

ارسال التعليق

Top